تعرف على كنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي ببنزرت
![]() |
تعرف على كنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي ببنزرت |
كنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي ببنزرت هي من أبرز المعالم الدينية والتاريخية في مدينة بنزرت، تونس. تعود هذه الكنيسة إلى العهد الذي استقر فيه عدد من الروس البيض في المدينة بعد الثورة البلشفية. تُعد الكنيسة شاهدًا صامتًا على فترة من التاريخ العالمي حينما حطّت السفن الروسية في شمال إفريقيا، جالبة معها قصصًا من التهجير والبحث عن ملاذ آمن. الكنيسة اليوم تمثل ليس فقط رمزًا دينيًا للطائفة الأرثوذكسية، بل أيضًا أثرًا تاريخيًا يروي قصة جالية روسية أقامت وأثّرت في نسيج المجتمع التونسي المحلي.
أقرأ أيضا :
تعرف على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بتونس
تعرف على كنيسة كاتدرائية القديس فنسون دي بول بتونس
تعرف على كنيسة القديس يوسف في جربة
كل ما تحتاج معرفته عن كنيسة القديس فيليكس بسوسة
الموقع الجغرافي للكنيسة وأهميته
تقع كنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي في قلب مدينة بنزرت شمال تونس، وتحديدًا في شارع إسبانيا، وهو موقع استراتيجي مطل على منطقة كانت ذات أهمية عسكرية وتجارية في الماضي. تتواجد الكنيسة بالقرب من الميناء البحري، ما يجعلها في مركز الأحداث التاريخية التي شهدتها بنزرت في أوائل القرن العشرين. هذه الكنيسة محاطة اليوم بعدد من المباني المدنية، ويقصدها الزوار سواء من المهتمين بالتاريخ أو من أبناء الجالية الأرثوذكسية.
إحداثيات الكنيسة الجغرافية (37°16′03″N 9°51′49″E) تدل على قربها من البحر الأبيض المتوسط، مما يعكس الطابع البحري لتاريخها، خاصة أن بداياتها كانت مرتبطة بأسطول بحري روسي.
التاريخ العريق لكنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي
تبدأ قصة هذه الكنيسة مع نهاية الحرب الأهلية الروسية في عام 1920، حيث وصلت 35 سفينة من أسطول الجيش الأبيض الروسي إلى ميناء بنزرت هاربة من القرم بعد استيلاء البلشفيين على شبه الجزيرة. من بين الركاب كان هناك 13 قسيسًا عسكريًا من الكنيسة الأرثوذكسية، وبدأوا بأداء الطقوس الدينية على متن بارجة "جورج المنتصر"، ثم لاحقًا في كنيسة مؤقتة بجبل كبير. بعد تقليص عدد السفن وبقاء حوالي 700 روسي فقط في المدينة، تطورت الفكرة لبناء كنيسة دائمة تخلد ذكرى الأسطول الروسي.
في عام 1936، منحت السلطات الفرنسية ترخيصًا لبناء الكنيسة، وبدأت الأشغال سنة 1937 على يد المهندس أن أس سوخاريفكسي. بُنيت الكنيسة على الطراز الروسي الجديد وافتُتحت رسميًا في سبتمبر 1938، وقد كانت رمزًا دينيًا وثقافيًا عزيزًا على قلوب الروس البيض المقيمين في بنزرت.
الطراز المعماري الفريد للكنيسة الأرثوذكسية في بنزرت
الكنيسة بُنيت على طراز "الروسي الجديد"، وهو أسلوب معماري يجمع بين الكلاسيكية الروسية والميل نحو البساطة الأوروبية الحديثة. يتميز هذا الطراز بالقباب المستديرة التي تعلوها الصلبان الأرثوذكسية، والواجهات المزخرفة بنقوش دقيقة. كما أن الألوان المستخدمة في التصميم الخارجي تعكس الطابع الديني الهادئ، مع لمسات من الأزرق والذهبي.
في الداخل، نجد أيقونات مقدسة وإيكونوستايس مذهبة، وهو حاجز يفصل المذبح عن صحن الكنيسة، ومزخرف بأيقونات دينية مرسومة بأسلوب بيزنطي. أحد أبرز العناصر هو الأبواب الملكية التي زُينت بعلم القديس أندراوس، رمز البحرية الإمبراطورية الروسية، وهو نفس العلم الذي كان يُرفع على بارجة "جورج المنتصر".
علاقة الكنيسة بالأسطول الروسي في بنزرت
ترتبط هذه الكنيسة بشكل مباشر بتاريخ الأسطول الروسي الذي لجأ إلى بنزرت. فقد جاءت الفكرة من أجل إحياء ذكرى السفن والبحارة الذين تركوا وطنهم بسبب الاضطرابات السياسية. وقد تم جمع التبرعات لبناء الكنيسة من قبل جمعية أرثوذكس بنزرت، التي أُعيد إنشاؤها خصيصًا لهذا الغرض.
داخل الكنيسة، توجد لوحة من الرخام منقوش عليها أسماء السفن الحربية التابعة لأسطول الجيش الأبيض. هذه التفاصيل تُظهر الاحترام الكبير الذي أولاه المجتمع الروسي في بنزرت لتاريخه البحري والعسكري. الكنيسة بذلك تمثل ضريحًا رمزيًا لذاكرة جماعية مرتبطة بالمنفى والمقاومة الروحية.
التأثيرات التاريخية والسياسية على الكنيسة
عانت الكنيسة من أضرار جسيمة خلال الحرب العالمية الثانية نتيجة قصف قوات الحلفاء بين 1942 و1943، لكنها أُعيد ترميمها بعد نهاية الحرب. عند استقلال تونس سنة 1956، غادر معظم أبناء الرعية الروسية البلاد، ما أدى إلى تضاؤل النشاط الكنسي تدريجيًا. وكان آخر قس يخدم الكنيسة قد غادر سنة 1962، ولم يتبقَ سوى عائلتين من الجالية الروسية في المدينة.
لكن رغم ذلك، استمر وجود الكنيسة ولو على نحو رمزي. تُقام فيها احتفالات دينية محدودة مثل عيد الميلاد وعيد القيامة، بمشاركة الجالية الأرثوذكسية المحدودة، وتحت إشراف بطريركية الإسكندرية للروم الأرثوذكس.
إحياء النشاط الأرثوذكسي في التسعينيات
مع نهاية الثمانينات، شهدت الكنيسة عودة تدريجية للحياة. استقر حولها عدد من المهاجرين من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق مثل روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، أغلبهم نساء متزوجات من تونسيين. هذه الجالية الجديدة أعادت النبض إلى الكنيسة وأعطتها نفسًا جديدًا.
في عام 1992، وُضعت الكنيسة تحت حماية جزئية من الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، مما زاد في دعمها الروحي والمؤسسي. وأصبحت تستقبل الزوار والمهتمين بتاريخها، وأحيانًا تُستخدم في مناسبات دينية رمزية، رغم افتقارها لخدمة قس دائم.
الساحة التي أمام الكنيسة وتخليد الأسماء
في سنة 2006، قرر المجلس البلدي لبنزرت إطلاق اسم "أناستازيا مانشتاين شيرينسكي" على الساحة المقابلة للكنيسة. وهي من الشخصيات البارزة في تاريخ الكنيسة، حيث كانت آخر من بقي على قيد الحياة من الروس الذين قدموا مع الأسطول. لعبت دورًا مهمًا في الحفاظ على التقاليد الدينية الأرثوذكسية في المنطقة، وكانت وجهًا بارزًا في التواصل بين الجالية الروسية والمجتمع التونسي.
رمزية كنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي في الذاكرة الثقافية التونسية
بالإضافة إلى كونها مركزًا دينيًا تابعًا للكنيسة الروسية الأرثوذكسية، تُعد كنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي ببنزرت شاهدًا حيًا على صفحة مهمة من صفحات التاريخ الثقافي والديني لتونس. لقد أصبحت هذه الكنيسة أكثر من مجرد مبنى ديني، إذ تحولت مع مرور الزمن إلى رمز للتعدد والتعايش السلمي بين الثقافات والأديان في المدينة. حين استقبلت تونس، وتحديدًا مدينة بنزرت، مئات اللاجئين الروس الفارين من الاضطرابات السياسية بعد الثورة البلشفية، لم تكن مجرد محطة مؤقتة، بل كانت مأوى وموطنًا جديدًا لهؤلاء الباحثين عن الأمان، واحتضنتهم برحابة صدر.
الكنيسة التي شُيّدت لتخليد ذكرى الأسطول الروسي الأبيض أصبحت رمزًا يجمع بين الروحانية والحنين إلى الماضي، وارتبطت في الوعي الجمعي التونسي بجالية صغيرة لكنها أثرت ثقافيًا ودينيًا في محيطها. المبنى نفسه، بطرازه المعماري الروسي الفريد، يلفت انتباه الزائرين والسكان المحليين على حد سواء، ويجذب اهتمام المهتمين بالتراث المعماري والديني في تونس.
ومع تراجع أعداد الرعية الروسية، ظل المبنى قائمًا كمعلم تاريخي وثقافي يروي قصة تعايش شعوب من خلفيات مختلفة تحت سماء واحدة. ولعلّ أكثر ما يعزز مكانة هذه الكنيسة في الذاكرة الثقافية التونسية هو أنها واحدة من الرموز القليلة الباقية التي تذكرنا بمرحلة نادرة من التاريخ الحديث، حيث كانت بنزرت تحتضن مجتمعًا أورثوذكسيًا صغيرًا ضمن نسيجها الاجتماعي.
اليوم، لا يُنظر إلى كنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي كمعلم ديني فقط، بل كجسر يربط بين الشعوب والثقافات، وكدليل على قدرة تونس على احتضان التنوع الديني والتاريخي. ويحرص الكثير من المهتمين بالتراث على زيارتها والتعرف على تاريخها، باعتبارها رمزًا للتسامح والانفتاح الذي لطالما ميّز المجتمع التونسي.
مستقبل الكنيسة ودورها في السياحة الثقافية والدينية
مع تزايد الاهتمام العالمي بالسياحة الدينية والثقافية، يمكن لكنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي أن تلعب دورًا مهمًا في هذا المجال. فهي ليست مجرد مكان عبادة بل متحف حي لتاريخ غني ومعقد. وقد تكون جزءًا من مسار سياحي ديني في تونس يشمل مواقع مسيحية وأثرية أخرى.
تشجيع السياحة الروحية عبر الترويج لهذه الكنيسة سيساهم في الحفاظ عليها كموقع أثري وديني. ويمكن للسلطات التونسية أن تستفيد من هذا المعلم النادر لجذب الزوار المهتمين بالتراث الأرثوذكسي والحرب العالمية الأولى والثانية.
ختاما، كنيسة القديس ألكسندر نيفيسكي ببنزرت ليست فقط مكانًا للعبادة، بل مرآة لتاريخ طويل من المنفى، التحدي، والارتباط الروحي العميق. رغم مرور عقود على مغادرة الجالية الروسية للمدينة، ما زالت الكنيسة صامدة، تروي قصتها من خلال جدرانها وأيقوناتها وساحتها التي تحمل اسم من حافظ على نورها حيًا. إنها واحدة من المعالم التي تستحق أن تُزار، وتُحفظ، وتُحكى للأجيال القادمة.