هل المسيحية ديانة أم شريعة؟

هل الإنجيل دين أم شريعة؟
هل المسيحية ديانة أم شريعة؟


في عالمنا الحديث، حيث تتعدد التصنيفات وتتداخل المفاهيم، يبرز تساؤل جوهري حول طبيعة المسيحية: هل هي مجرد ديانة ضمن الديانات المتعددة، أم أنها شريعة، مجموعة من القوانين والوصايا التي تنظم حياة أتباعها، أم أنها شيء أعمق وأشمل من ذلك بكثير؟ بالنسبة للكثيرين، خاصة من خارج الدائرة المسيحية، قد تبدو الإجابة بديهية، فتُصنف المسيحية مباشرةً كديانة. لكن بالنسبة للمؤمن المسيحي، يحمل هذا السؤال أبعادًا لاهوتية وروحية عميقة، تتجاوز مجرد التصنيف الأكاديمي. فالمسيحية، في جوهرها، هي علاقة شخصية مع الله من خلال يسوع المسيح، وهي تجربة تحولية تتغلغل في كل جانب من جوانب الحياة. إنها ليست مجرد طقوس أو قواعد، بل هي طريقة حياة متجذرة في الإيمان والمحبة والنعمة. في هذه المقالة، سنتعمق في استكشاف هذا التساؤل المعقد، ونفحص العلاقة بين المسيحية كمفهوم ديانة، وكشريعة، وكإيمان حي، لنقدم رؤية شاملة توضح أن المسيحية تقدم إطارًا فريدًا يختلف عن التصنيفات التقليدية، ويقدم مفهومًا جديدًا للعلاقة بين الإنسان وخالقه.




أقرأ أيضا:

هل المسيح نبي أم إله؟ فهم لاهوتي متعمق
هل المسيحية دين صحيح؟
هل المسيحيون يؤمنون بالله؟
هل المسيحيين يصومون ؟




أولاً: الدين والشريعة في السياق البشري - مقارنة مع الإطار المسيحي


لفهم طبيعة المسيحية، من الضروري أولاً أن نستعرض كيف تُعرف "الديانة" و"الشريعة" في السياق البشري والعام، ثم نقارن ذلك بالإطار المسيحي الفريد. فمن منظور واسع، تُعرف الديانة عادةً بأنها نظام متكامل من المعتقدات والممارسات الأخلاقية والطقوس التي تربط الإنسان بقوة عليا، أو مجموعة من القوى العليا. تشمل الديانات غالبًا أساطير، رموزًا، تقاليدًا، وأخلاقًا تهدف إلى تزويد أتباعها بمعنى وهدف في الحياة. هي إطار شامل يقدم تفسيرًا للوجود، وأجوبة على الأسئلة الكبرى حول الحياة والموت، ويشكل مجتمعات تتمحور حول هذه المعتقدات. الديانات قد تكون موحِدة (تؤمن بإله واحد) أو متعددة الآلهة، وقد تركز على الخلاص الفردي أو الجماعي، أو كليهما. أما الشريعة، فهي عادة ما تكون مجموعة من القوانين والوصايا والأحكام التي تفرضها سلطة دينية أو إلهية على أتباعها لتنظيم حياتهم، سواء كانت عبادات، معاملات اجتماعية، أو حتى تفاصيل حياتية يومية. الشريعة تحدد ما هو حلال وما هو حرام، وما هو واجب وما هو محظور، وتضع غالبًا عقوبات دنيوية أو أخروية لمخالفة هذه القوانين. الأنبياء والرسل في الديانات المختلفة غالبًا ما يأتون برسالات تتضمن جانبًا تشريعيًا يوجه سلوك الناس.



في العديد من الديانات حول العالم، يحتل مفهوم الشريعة مكانة مركزية. ففي اليهودية، "التوراة" هي ليست مجرد مجموعة قصص، بل هي شريعة الله الشاملة التي تُنظم كل جانب من جوانب الحياة اليهودية، من العبادات إلى القوانين المدنية والجنائية. في الإسلام، "الشريعة الإسلامية" هي نظام قانوني شامل مستمد من القرآن والسنة، ويغطي جوانب العبادة، المعاملات، الأحوال الشخصية، والقضايا الجنائية. الهدف من هذه الشرائع هو تحقيق العدالة، تنظيم المجتمع، وضمان التقوى والالتزام بأوامر الله. وغالبًا ما يُنظر إلى الالتزام بالشريعة على أنه الطريق إلى الخلاص أو نيل رضا الإله. الفشل في تطبيق الشريعة يُعتبر خطيئة ويؤدي إلى عواقب وخيمة. هذا التركيز على القانون والأداء البشري هو ما يميز العديد من هذه الأنظمة. فالعلاقة مع الله تُبنى على أساس الطاعة الدقيقة لمجموعة من الأوامر والنواهي، حيث يكون الخلاص مرتبطًا بمدى التزام الفرد بهذه القواعد.




عند مقارنة هذا الإطار بالمسيحية، نجد فروقًا جوهرية تُبرز فرادتها. فالمسيحية لا تُقدم كشريعة جديدة لتحل محل الشرائع القديمة، بل تُقدم كتحقيق لشريعة الله من خلال شخص يسوع المسيح. إن مفهوم "الشريعة" في المسيحية لا يلغي القواعد الأخلاقية، بل يُفهم بطريقة مختلفة تمامًا. فالتركيز ينتقل من الأداء البشري المعتمد على الطاعة الحرفية للقانون، إلى الإيمان بالنعمة الإلهية التي تُمنح مجانًا من خلال فداء المسيح. لا تُلزم المسيحية أتباعها بمجموعة من القوانين الظاهرية التي يجب تطبيقها بشكل صارم لكسب الخلاص. بدلاً من ذلك، تُركز على تحوّل القلب الداخلي، وعلى إقامة علاقة حية وشخصية مع الله. هذا التحول الداخلي هو الذي يدفع المؤمن إلى محبة الله ومحبة القريب، وبالتالي تحقيق جوهر الناموس، ليس كواجب مفروض، بل كنتيجة طبيعية للإيمان والمحبة. فالشريعة المسيحية تُفهم على أنها شريعة المحبة، التي تُكتب في القلوب وليس على الألواح الحجرية، وهو ما يختلف جذريًا عن المفاهيم التقليدية للشريعة المعتمدة على الأداء البشري.



إن الانتقال من الشريعة الحرفية إلى شريعة النعمة في المسيحية لا يعني إلغاء الأخلاق أو الفوضى، بل يعني الارتقاء بمستوى الأخلاق إلى ما هو أعمق من مجرد الالتزام الظاهري. فالمسيحية تدعو إلى تغيير جذري في الدوافع والسلوكيات ينبع من الداخل، وليس من الخوف من العقاب أو الرغبة في المكافأة. هذا هو الفارق الجوهري الذي يميز المسيحية عن تلك الأنظمة التي تُركز بشكل أساسي على الشريعة كطريق للخلاص.





ثانياً: المسيحية كديانة – الجوانب التقليدية والتصنيف الأكاديمي


من الناحية الأكاديمية والاجتماعية، لا يمكن إنكار أن المسيحية تُصنف على نطاق واسع كـ "ديانة". فالمسيحية تمتلك جميع المكونات التي تُعرف بها الديانات الكبرى: لديها نصوص مقدسة (الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد)، وعقائد محددة (مثل عقيدة الثالوث، التجسد، الكفارة، القيامة)، وطقوس وممارسات عبادية (مثل المعمودية، العشاء الرباني، الصلاة، الترانيم)، ومؤسسات منظمة (الكنائس، الطوائف، الهيئات الكنسية)، وتاريخ طويل يمتد لألفي عام، ومجتمعات عالمية تُعرف بكونها مسيحية. هذه العناصر تجعل من المسيحية ظاهرة دينية يمكن دراستها وتحليلها ومقارنتها بالديانات الأخرى من منظور علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان.



فالنصوص المقدسة، على سبيل المثال، توفر رواية متكاملة عن خلق العالم، سقوط الإنسان، خطة الله للخلاص من خلال المسيح، وتعليمات للحياة المسيحية. هذه النصوص هي مصدر الإيمان والسلطة الروحية للمسيحيين. العقائد، بدورها، تُشكل الإطار الفكري الذي يُفهم من خلاله الإيمان المسيحي، وتُحدد طبيعة الله، الإنسان، الخلاص، والمستقبل. هي ليست مجرد أفكار مجردة، بل هي حقائق إيمانية تؤثر على فهم المؤمن للعالم ومكانه فيه. الطقوس والممارسات العبادية، مثل القداس الإلهي، أو المعمودية التي ترمز إلى الانضمام إلى جسد المسيح والموت مع الخطيئة والقيامة لحياة جديدة، أو العشاء الرباني الذي يُحيي ذكرى فداء المسيح، كلها تعبيرات ملموسة عن الإيمان وتشكل جزءًا أساسيًا من الحياة الدينية للمسيحي. هذه الطقوس تُمارس في جماعات، وتُعزز الروابط بين المؤمنين، وتُعيد تذكيرهم بالحقائق الأساسية لإيمانهم.




كما أن المسيحية، على مر التاريخ، قد أسست مؤسسات كنسية ضخمة ومتنوعة، من الكنائس المحلية الصغيرة إلى البطريركيات والأسقفيات العالمية. هذه المؤسسات لا تقتصر وظيفتها على تنظيم العبادة فحسب، بل تمتد لتشمل التعليم، والخدمة الاجتماعية، والرعاية الروحية، والحفاظ على التراث المسيحي. الكنائس بمختلف مذاهبها وطوائفها تشكل هياكل تُنظم الحياة الدينية للملايين حول العالم، وتوفر لهم إطارًا للنمو الروحي والمشاركة المجتمعية. فالمسيحية، شأنها شأن أي دين آخر، لديها تقويمها الخاص المليء بالأعياد والمناسبات الدينية، مثل عيد الميلاد والقيامة، التي تُحتفل بها بشكل جماعي وتُعبر عن جوهر الإيمان المسيحي. هذه الممارسات المشتركة والاحتفالات تُعزز الشعور بالانتماء والهوية الدينية لدى أتباعها.




ومع ذلك، حتى عند تصنيفها كديانة، يظل هناك فارق جوهري في فهم المسيحية لذاتها. فبينما الديانات الأخرى قد تُركز على الالتزام بالقواعد الخارجية أو تحقيق الاستنارة الذاتية، تُركز المسيحية على علاقة شخصية مع خالق الكون. هذا لا يعني إلغاء الجانب التنظيمي أو الطقسي، ولكنه يُعيد وضعه في سياق مختلف: كونه وسيلة للتعبير عن الإيمان وتنميته، وليس وسيلة لكسب الخلاص. فالمسيحية لا تُقدم كطريق يُصنعه الإنسان للوصول إلى الله، بل كطريق صنعه الله بنفسه ليصل إلى الإنسان من خلال المسيح. هذا الفارق الدقيق لكنه حاسم هو ما يميز المسيحية حتى ضمن إطار التصنيف الأكاديمي للديانات، ويجعلها فريدة في جوهرها وممارستها.





ثالثاً: المسيحية كإيمان وعلاقة شخصية – تجاوز المفهوم التقليدي للشريعة


إن جوهر المسيحية، كما يفهمها المؤمنون، يتجاوز كونه مجرد ديانة بالمعنى الشكلي، أو شريعة بقوانينها الصارمة، ليُقدم نفسه كـ إيمان شخصي وعلاقة حية مع الله. هذا هو الفارق الأساسي الذي يُعتبر جوهريًا بالنسبة للمسيحيين، والذي يُبرز تفرد المسيحية بين أنظمة المعتقدات الأخرى. ففي المسيحية، لا يُنظر إلى الخلاص على أنه نتيجة لأعمال الإنسان الصالحة، أو التزامه الدقيق بقوانين محددة، بل هو هبة مجانية تُمنح بالنعمة من خلال الإيمان بفداء يسوع المسيح على الصليب وقيامته. لا يمكن لأي قدر من الجهد البشري أو الالتزام بأي شريعة أن يكسب الإنسان هذا الخلاص أو يقربه إلى الله. بل هو عطية إلهية تُقدم للإنسان العاجز عن تخليص نفسه.



هذا المفهوم يُمثل تحولًا جذريًا عن الفكر الشريعي الذي كان سائدًا في العهد القديم، وفي العديد من الديانات الأخرى. فالعهد القديم، بناموسه الموسوي، كان يُظهر للإنسان حاجته إلى المخلص، ويُفضح عجزه عن تلبية متطلبات الشريعة الإلهية الكاملة. لقد كان الناموس، بحد ذاته، صالحًا ومقدسًا، لكن الإنسان لم يكن قادرًا على تحقيقه بسبب ضعف طبيعته البشرية المتأثرة بالخطيئة. فالمسيح جاء ليس لينسخ الناموس، بل ليُكمله ويُحقق مقاصده، مقدمًا ذاته كذبيحة كفارية عن خطايا البشرية جمعاء. من خلال موته وقيامته، حقق المسيح ما لم يستطع الإنسان تحقيقه بالناموس، وهكذا فتح طريقًا جديدًا ومباشرًا إلى الله. هذا الطريق هو الإيمان بيسوع كرب ومخلص.



وبالتالي، تُصبح الحياة المسيحية ليست محاولة يائسة لكسب رضا الله بالالتزام بشريعة خارجية، بل هي استجابة صادقة من القلب لمحبة الله الفائقة التي تجلت في المسيح. عندما يؤمن الإنسان بالمسيح، يُصبح روحه القدس ساكنًا فيه، وهو الذي يُمكنه من العيش بحياة ترضي الله. فالقوانين والوصايا الأخلاقية، التي تُعرف بـ "شريعة المسيح" أو "ناموس المحبة"، لا تُصبح عبئًا ثقيلًا، بل هي تعبير طبيعي عن القلب الذي تحوّل وأصبح مملوءًا بمحبة الله ومحبة القريب. فالوصية العظمى في المسيحية هي "أحبب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك" و "أحبب قريبك كنفسك". هاتان الوصيتان تلخصان كل الشريعة والأنبياء، وتُظهران أن جوهر الالتزام المسيحي هو المحبة.



إن هذه العلاقة الشخصية مع الله تُصبح ممكنة لأن المسيحية تُقدم الله ليس كقوة بعيدة أو كائن غامض، بل كـ "أب سماوي" يمكن التحدث إليه، والتقرب منه، والاعتماد عليه. الصلاة في المسيحية ليست مجرد طقس، بل هي حوار حي مع الله. النمو الروحي ليس مجرد التزام بقواعد، بل هو عملية تحول داخلي مستمرة، يقودها الروح القدس، وتُغير الإنسان ليُصبح أكثر شبهًا بالمسيح. فالمسيحية، في هذا السياق، هي دعوة للعيش في حرية النعمة، لا في عبودية القانون. إنها تُقدم خلاصًا كاملاً من عبء الخطيئة والعجز البشري، وتُمنح حياة جديدة في المسيح، حياة تتميز بالرجاء والمحبة والسلام الداخلي، وهي أمور لا يمكن أن تُكتسب بمجرد الالتزام بشريعة مهما كانت عظيمة.





رابعاً: النعمة والإيمان: الأساس الذي يُميز المسيحية عن الشريعة


إن الفهم العميق للمسيحية يتطلب إدراكًا واضحًا للفرق الجوهري بينها وبين أي نظام يعتمد على الشريعة أو الأعمال، وهذا الفارق يكمن في مفهومي النعمة والإيمان. ففي جوهر المسيحية، يُعلن الكتاب المقدس أن الخلاص هو هبة مجانية من الله تُمنح بالنعمة، وتُستقبل بالإيمان، وليس بالأعمال. هذا المبدأ هو حجر الزاوية الذي يُميز المسيحية عن غالبية الأنظمة الدينية الأخرى، التي غالبًا ما تُركز على الجهد البشري والالتزام بالقوانين كوسيلة لكسب رضا الإله أو تحقيق الخلاص. فالنعمة تعني أن الله، في محبته الفائقة، قد قدم للإنسان ما لا يستطيع الإنسان تحقيقه لنفسه، وذلك من خلال ذبيحة ابنه يسوع المسيح.



لقد أوضح الرسول بولس هذا المفهوم بوضوح شديد في رسائله، مؤكداً أن "قد خُلصتم بالنعمة، بالإيمان، وهذا ليس من أنفسكم، إنه عطية الله. ليس من أعمال لكي لا يفتخر أحد". هذا يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يكسب طريقه إلى الجنة أو أن يرضي الله عن طريق التقيد الصارم بمجموعة من القواعد أو أداء طقوس معينة. فكل محاولات الإنسان لتحقيق البر الذاتي من خلال الأعمال تعتبر قاصرة وغير كافية في نظر الله القدوس. الناموس، أو الشريعة، كان يهدف إلى إظهار قداسة الله، وكشف خطيئة الإنسان، وإعداده لقبول المخلص، لكنه لم يكن أبدًا طريقًا للخلاص بحد ذاته. لقد كان كـ "مُعلِّم" يقود الناس إلى المسيح، ليدركوا حاجتهم إلى مخلص يفوق قدرتهم البشرية على الطاعة الكاملة.



وعندما نتحدث عن الإيمان في السياق المسيحي، فإننا لا نعني مجرد تصديق عقلي بوجود الله أو حقائق معينة. بل الإيمان هو ثقة كاملة ومطلقة في شخص يسوع المسيح، واعتماد كلي عليه وعلى عمله الفدائي على الصليب. إنه تسليم للحياة للمسيح كرب ومخلص، وقبول لمغفرة الخطايا التي قدمها مجانًا. هذا الإيمان هو استجابة لدعوة الله، وهو يُولد في قلب الإنسان بفعل الروح القدس. فالإيمان ليس عملًا يُكسب الخلاص، بل هو الوعاء الذي تُستقبل به النعمة الإلهية. من خلال هذا الإيمان، يُصبح المؤمن مبررًا أمام الله، أي أنه يُعتبر بارًا في عيني الله ليس ببره الذاتي، بل ببر المسيح الذي نُسب إليه.



هذا المفهوم العميق للنعمة والإيمان له تداعيات كبيرة على الحياة المسيحية. فالحياة المسيحية لا تُصبح سلسلة من الواجبات الثقيلة التي تُؤدى تحت ضغط الخوف من العقاب، بل تُصبح رحلة شكر ومحبة تجاه الله الذي قدم الخلاص مجانًا. فالأعمال الصالحة، التي تُميز حياة المؤمن، لا تُفعل لكسب الخلاص، بل هي نتيجة طبيعية للإيمان الحي ومظاهر للمحبة التي زرعها الروح القدس في القلب. فالمسيحي يعيش حياة الصلاح ليس لأنه "يجب" أن يفعل ذلك لكسب السماء، بل لأنه "يريد" أن يفعل ذلك تعبيرًا عن محبته وشكره لله، ولأن الروح القدس يُمكنه من ذلك. وبالتالي، فإن الدافع وراء السلوك المسيحي يتغير جذريًا من الإجبار إلى الرغبة الحرة، ومن الخوف إلى المحبة.



إن هذا الفارق بين النعمة والشريعة هو ما يُعلي المسيحية عن مجرد كونها مجموعة من القوانين. فبينما الشريعة تُطالب وتدين، النعمة تُعطي وتغفر. المسيحية تُقدم خلاصًا كاملاً من عبودية الخطيئة والقانون، وتُقدم حرية العيش في محبة الله وقوته. هذا هو الأساس الذي يُميز المسيحية ويجعلها دعوة للإيمان لا للشريعة.






خامساً: المسيحية: إيمان يُترجم إلى شريعة محبة لا نظام قوانين


عندما نتأمل في طبيعة المسيحية، نجد أنها لا تتنكر للحاجة إلى إطار أخلاقي أو مبادئ توجيهية للسلوك، بل تُقدم مفهومًا فريدًا لـ "الشريعة" يختلف جذريًا عن أنظمة القوانين الخارجية. فبدلاً من أن تكون المسيحية شريعة بمعناها الحرفي، أي مجموعة من الأوامر والنواهي الصارمة التي يجب الالتزام بها لكسب الخلاص، فإنها تُقدم نفسها كـ إيمان يُترجم إلى "شريعة محبة"، تنبع من قلب متجدد بالروح القدس. هذا هو الفارق الجوهري الذي يميزها ويجعلها فريدة.



لقد أكد يسوع المسيح نفسه على أهمية المحبة كجوهر للناموس والأنبياء. عندما سُئل عن أعظم وصية في الناموس، أجاب بأنها "أن تحب الرب إلهك بكل قلبك، وبكل نفسك، وبكل فكرك"، تليها مباشرة وصية "أن تحب قريبك كنفسك". ثم أضاف أن "بهاتين الوصيتين تتعلق الشريعة كلها والأنبياء". هذا يعني أن المحبة ليست مجرد وصية إضافية، بل هي الأساس الذي يقوم عليه كل الناموس الأخلاقي. فالشريعة المسيحية لا تُكتب على ألواح حجرية، بل تُنقش في قلوب المؤمنين بفعل الروح القدس. إنها شريعة داخلية، تقود الإنسان إلى السلوك الصحيح من دافع داخلي هو المحبة، وليس من دافع خارجي هو الخوف من العقوبة أو الرغبة في المكافأة.



هذا التحول في مفهوم الشريعة من القوانين الخارجية إلى مبدأ المحبة له تأثير عميق على الحياة المسيحية. فالمسيحي لا يطيع الله لأنه مجبر، بل لأنه يحب الله ويرغب في إرضائه. فالأعمال الصالحة لا تُفعل لكسب الخلاص، بل تُفعل كثمرة طبيعية للإيمان وكاستجابة للنعمة الإلهية. فعندما يكون قلب الإنسان مملوءًا بمحبة الله، فإن هذه المحبة ستظهر بالضرورة في أفعاله وسلوكه تجاه الله والآخرين. على سبيل المثال، وصية "لا تقتل" لا تُصبح مجرد منع لارتكاب جريمة، بل تتحول إلى دعوة لمصالحة الأعداء، وتقديم الغفران، ونزع الكراهية من القلب. وصية "لا تزن" لا تُصبح مجرد منع لفعل جسدي، بل تتوسع لتشمل نقاوة الفكر والقلب. وهكذا، فإن شريعة المحبة تُعلي من مستوى الأخلاق المسيحية إلى عمق لم تستطعه الشريعة الحرفية.



بالإضافة إلى ذلك، فإن المسيحية، كإيمان حي، تُقدم للمؤمن قوة وتمكينًا من الروح القدس للعيش وفقًا لشريعة المحبة. فالإنسان بمفرده، بطبيعته الخاطئة، غير قادر على تحقيق هذه المحبة الكاملة. ولكن الروح القدس، الذي يسكن في المؤمنين، يُمكنهم من التغلب على ضعفهم، وينمّي فيهم ثمار الروح: المحبة، الفرح، السلام، الصبر، اللطف، الصلاح، الإيمان، الوداعة، وضبط النفس. هذه الثمار ليست نتيجة لجهد بشري محض، بل هي علامة على عمل الروح القدس في حياتهم.


لذلك، يمكن القول إن المسيحية ليست مجرد ديانة تُضاف إلى قائمة الديانات، ولا هي شريعة تُقيد الحريات. بل هي إيمان شخصي وعلاقة عميقة مع الله، تُقدم الخلاص بالنعمة من خلال المسيح، وتُترجم هذه النعمة إلى حياة تُميزها المحبة كقوة دافعة للسلوك الأخلاقي. إنها دعوة للتحرر من عبودية القانون والخطيئة، والعيش في حرية ومسؤولية كمخلوق محبوب من قبل الله، يسعى لإظهار محبته من خلال حياته. هذا الفهم هو ما يجعل المسيحية فريدة، ويُبرز جوهرها كـ"إيمان" حي يتجسد في حياة يومية من المحبة.







في ختام رحلتنا لاستكشاف طبيعة المسيحية، هل هي ديانة أم شريعة، يتضح لنا أن التصنيف التقليدي وحده لا يكفي لاحتواء عمقها وفرادتها. فبينما تحمل المسيحية سمات الديانات المعروفة من حيث النصوص والعقائد والطقوس والمؤسسات، فإنها في جوهرها تتجاوز ذلك لتقدم نفسها كـ إيمان حي وعلاقة شخصية وتحولية مع الله. هي ليست مجرد مجموعة من القوانين التي تُكسب الخلاص، بل هي دعوة لقبول خلاص مجاني يُقدم بالنعمة من خلال الإيمان بيسوع المسيح.


إن الفارق الجوهري يكمن في انتقال التركيز من الأداء البشري المعتمد على الالتزام الخارجي بالشريعة، إلى التحول الداخلي الذي يُمكنه الروح القدس، والذي يُفضي إلى حياة تُشكلها المحبة. فالمسيحية هي شريعة محبة مكتوبة في القلب، تُعبر عن نفسها في السلوك تجاه الله والقريب، ليس كواجب مفروض، بل كنتيجة طبيعية لعلاقة حية مع الخالق. هذا المفهوم يُحرر الإنسان من عبء الخطيئة والعجز، ويمنحه حياة جديدة من السلام والفرح والرجاء.


إن المسيحية، إذن، هي أكثر من مجرد تصنيف. إنها دعوة للعيش في حرية النعمة، تحت قيادة المحبة، وفي شركة مستمرة مع الله. هذا هو ما يجعلها فريدة، ويقدم للعالم نموذجًا للعلاقة مع الإله يختلف عن أي نظام آخر.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url