تفسير إنجيل متى الإصحاح الرابع الفصل 4

تفسير إنجيل متى الإصحاح 4 الفصل الرابع
تفسير إنجيل متى الإصحاح الرابع الفصل 4


يُعد الإصحاح الرابع من إنجيل متى من الفصول المفصلية التي ترسم ملامح رسالة المسيح وتؤكد هويته كابن الله ومُخلِّص العالم. ففي هذا الإصحاح نُعايش تجربة المسيح في البرية، ثم بداية خدمته العلنية، ما يكشف لنا دروسًا روحية عميقة حول الطاعة، والتجربة، والإرسالية، والنور الذي أشرق في الظلمة. سنتناول في هذا المقال تفسيرًا تفصيليًا ومنظمًا لهذا الإصحاح، مع التركيز على أهميته الروحية واللاهوتية.



شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد






تفسير إنجيل متى الإصحاح الرابع الفصل 4




  • (1) إِذَا بِالرُّوحِ يَصْعَدُ بِيَسُوعَ إِلَى الصَّحْرَاءِ، لِيُواجهَ وَسْوَسَةَ إِبْلِيسَ.
  • (2) هُنَاكَ، صَامَ أَرْبَعِينَ فَجْرًا وَمِثْلَهَا مِنَ الْمَسَاءِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْجُوعُ فِي النِّهَايَةِ.
  • (3) فَدَنَا مِنْهُ الْمُغْوِي قَائِلًا: «إِنْ كُنْتَ حَقًّا ابْنَ اللهِ، فَانْطِقْ فَتَتَحَوَّلَ هَذِهِ الصُّخُورُ خُبْزًا.»
  • (4) فَأَجَابَ مُصَرِّحًا: «قَدْ كُتِبَ: لَا يَحْيَا الْمَرْءُ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَصْدُرُ مِنْ فَاهِ الرَّبِّ.»
  • (5) ثُمَّ حَمَلَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَقَامَهُ عَلَى ذِرْوَةِ بُرْجِ الْهَيْكَلِ.
  • (6) وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ حَقًّا ابْنَ اللهِ، فَأَلْقِ بِنَفْسِكَ أَسْفَلَ، فَالنَّصُّ يَقُولُ: سَيُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ، وَعَلَى أَكُفِّهِمْ سَيَحْمِلُونَكَ لِئَلَّا يَصْطَدِمَ حَجَرٌ بِقَدَمِكَ.»
  • (7) فَرَدَّ عَلَيْهِ يَسُوعُ: «وَمَكْتُوبٌ أَيْضًا: لَا تَخْتَبِرْ رَبَّكَ وَإِلَهَكَ.»
  • (8) وَمَرَّةً أُخْرَى، أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى قِمَّةِ جَبَلٍ شَاهِقٍ، وَعَرَّضَ لِنَاظِرَيْهِ كُلَّ مَمَالِكِ الْعَالَمِ بَهَائِهَا.
  • (9) وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ هَذَا أَمْنَحُهُ لَكَ إِنْ خَرَزْتَ سَاجِدًا لِي.»
  • (10) فَأَجَابَهُ يَسُوعُ بِحَزْمٍ: «ابْتَعِدْ يَا شَيْطَانُ! فَقَدْ دُوِّنَ: لِرَبِّكَ وَإِلَهِكَ تَرْكَعُ، وَهُوَ وَحْدَهُ تَعْبُدُ.»
  • (11) عِنْدَئِذٍ، تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذْ بِالْمَلَائِكَةِ تَقْدَمُ لِتَخْدِمَهُ.
  • (12) وَحِينَ عَلِمَ يَسُوعُ بِأَنَّ يُوحَنَّا قَدْ سُلِّمَ، رَجَعَ إِلَى إِقْلِيمِ الْجَلِيلِ.
  • (13) وَهَجَرَ النَّاصِرَةَ، وَجَاءَ لِيُقِيمَ فِي كَفْرَنَاحُومَ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ الْبَحْرِ، عَلَى حُدُودِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ.
  • (14) لِكَيْ يَتِمَّ مَا أَوْحَى بِهِ النَّبِيُّ إِشَعْيَاءُ:
  • (15) «أَرْضُ زَبُولُونَ وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، مَا وَرَاءَ الْأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الْأُمَمِ.
  • (16) الْجَمَاعَةُ الْقَابِعَةُ فِي دَيَاجِيرِ الظُّلْمَةِ شَاهَدَتْ نُورًا كَبِيرًا، وَالْقَاطِنُونَ فِي رُبُوعِ الْمَوْتِ وَظِلَالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ ضِيَاءٌ.»
  • (17) مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ، شَرَعَ يَسُوعُ فِي كَرَازَتِهِ مُعْلِنًا: «تُوبُوا، فَإِنَّ مَمْلَكَةَ السَّمَاوَاتِ قَدِ اقْتَرَبَتْ.»
  • (18) وَبَيْنَمَا كَانَ يَسُوعُ يَمْشِي عَلَى ضِفَافِ بَحْرِ الْجَلِيلِ، أَبْصَرَ شَقِيقَيْنِ: سِمْعَانَ الْمَعْرُوفَ بِبُطْرُسَ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ، وَهُمَا يُلْقِيَانِ شَبَكَتَهُمَا فِي الْبَحْرِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ.
  • (19) فَقَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَاتْبَعَانِي، وَسَأُحَوِّلُكُمَا إِلَى صَيَّادَيْنِ لِلْبَشَرِ.»
  • (20) فَتَرَكَا الشِّبَاكَ فِي الْحَالِ وَلَحِقَا بِهِ.
  • (21) وَمِنْ بَعْدِ أَنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، رَأَى شَقِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ بِصُحْبَةِ وَالِدِهِمَا زَبْدِي، يَصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَنَادَاهُمَا.
  • (22) فَتَرَكَا السَّفِينَةَ وَوَالِدَهُمَا فِي الْحَالِ وَلَحِقَا بِهِ.
  • (23) وَكَانَ يَسُوعُ يَجُوبُ كُلَّ أَرْجَاءِ الْجَلِيلِ، يُعَلِّمُ فِي كَنَائِسِهِمْ، وَيُنَادِي بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيُشْفِي كُلَّ دَاءٍ وَكُلَّ عِلَّةٍ بَيْنَ النَّاسِ.
  • (24) فَانْتَشَرَ صِيتُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ كُلَّ الْمَرْضَى الَّذِينَ يَعَانُونَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَآلَامٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَالْمُسْتَحْوِذَ عَلَيْهِمْ الْأَرْوَاحُ الشِّرِّيرَةُ، وَالْمُصَابِينَ بِالصَّرَعِ، وَالْمُشَلَّلِينَ، فَشَفَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
  • (25) وَتَبِعَتْهُ حُشُودٌ ضَخْمَةٌ مِنَ الْجَلِيلِ، وَمِنْ مُدُنِ الْعَشْرِ، وَمِنْ أُورُشَلِيمَ، وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَمِنْ مَا وَرَاءَ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ.



1. تجربة يسوع في البرية (متى 4: 1-11)


يبدأ الإصحاح بمشهد درامي حيث "أُصعد يسوع إلى البرية من الروح ليُجرَّب من إبليس". هذه التجربة لم تكن عرضًا عشوائيًا، بل جزءًا من خطة الله لإظهار طهارة المسيح وقدرته على مقاومة الشر.

  • الصوم الأربعيني: صام المسيح أربعين يومًا وأربعين ليلة، وهي فترة تُذكّرنا بصوم موسى في الجبل وإيليا النبي. الصوم هنا هو وقت تكريس واستعداد للرسالة.
  • التجارب الثلاث: استهدف الشيطان جسد المسيح (تحويل الحجارة إلى خبز)، روحه (إلقاء النفس من جناح الهيكل)، ومجده (السجود لإبليس مقابل ممالك العالم). في كل مرة ردّ يسوع بكلمة الله، مشيرًا إلى قوة الكتاب المقدس في مقاومة الشر.
  • درس روحي: المسيح واجه التجربة كإنسان لكنه غلبها بقوة الروح والكلمة، مما يعطينا نحن المؤمنين رجاء في الانتصار.



2. يسوع يبتدئ في الكرازة (متى 4: 12-17)


بعدما سُجن يوحنا المعمدان، بدأ يسوع خدمته العلنية في الجليل، وهي منطقة مهملة روحيًا، لكنها صارت مركز النور.

  • الجليل أرض الأمم: لم يبدأ يسوع في أورشليم المقدسة، بل في الجليل المظلم، ليحقق النبوة: "الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا" (إشعياء 9: 1-2).
  • رسالة التوبة: كان مفتاح رسالته هو التوبة، لأن ملكوت السماوات قد اقترب. الملكوت ليس فقط وعدًا مستقبليًا بل حضور إلهي الآن.
  • الفرق بين يوحنا ويسوع: يوحنا دعا إلى التوبة استعدادًا، أما يسوع فدعا إلى التوبة كتجاوب مع حضوره كملك.



3. دعوة التلاميذ الأولين (متى 4: 18-22)


بينما كان يسوع يمشي على شاطئ بحر الجليل، دعا أربعة رجال من صيادي السمك ليكونوا تلاميذه الأوائل.


  • بطرس وأندراوس: دعاهم يسوع قائلاً: "هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس". فتركا الشباك وتبعاه فورًا.
  • يعقوب ويوحنا: تركا السفينة وأباهما، مما يرمز إلى التخلي عن العلاقات والارتباطات لأجل الدعوة.
  • الطاعة الفورية: الاستجابة الفورية تُظهر الإيمان والثقة في شخص المسيح.
  • رمزية الصيد: الصيد يمثل كسب النفوس، والتلاميذ الجدد هم أدوات في يد المسيح لنشر الرسالة.




4. خدمة يسوع في الجليل (متى 4: 23-25)


ينتهي الإصحاح بوصف عام لنشاط المسيح في الجليل، الذي شمل التعليم والشفاء، ما جذب إليه الجموع من كل مكان.


  • تعليم في المجامع: كان يسوع يعلّم بأسلوب جديد، بسلطان وليس كالكتبة والفريسيين.
  • بشارة الملكوت: لم تكن البشارة فقط بالكلام، بل مرافَقة بقوة، حيث شفى الأمراض وطرد الأرواح الشريرة.
  • شفاء شامل: شملت أعماله شفاء الأمراض النفسية والجسدية، مما يبرز شمولية رسالة الخلاص.
  • تدفق الجموع: جاء الناس من الجليل، والعشر مدن، وأورشليم، ويهوذا، وعبر الأردن، مما يعكس الانتشار السريع للخبر.



دروس تطبيقية من متى الإصحاح الرابع


  • قوة الكلمة في مقاومة الشر: استخدم يسوع الكتاب المقدس ليرد على إبليس، ما يُظهر أهمية حفظ الكلمة والاعتماد عليها.
  • أهمية التوبة في الدخول إلى الملكوت: التوبة ليست مجرد ندم، بل تغيير اتجاه القلب والفكر نحو الله.
  • الدعوة تتطلب تضحية: ترك التلاميذ كل شيء ليُتبعوا يسوع، ونحن مدعوون لاتباعه بكل قلوبنا.
  • الإنجيل نور في الظلمة: كما أشرق النور في الجليل، يمكن أن يشرق في قلوب من يعيشون في ظلمة الخطيئة.




التأمل اللاهوتي في تجربة يسوع


  • يسوع ابن الله وابن الإنسان: التجربة تبرز لاهوته وناسوته. فكمسيح، لا يخطئ، لكنه اختبر الألم.
  • يسوع البار الكامل: غلب التجربة ليكون آدم الجديد الذي يُعيد للبشرية كرامتها.
  • تحقيق النبوات: كل حدث في هذا الإصحاح يربطنا بالعهد القديم، ويُثبت أن يسوع هو المسيح المنتظر.


في الختام، إن الإصحاح الرابع من إنجيل متى هو أكثر من مجرد سرد لحوادث؛ إنه إعلان قوي لهوية يسوع، ووضع للأساس الذي ستُبنى عليه خدمته. من البرية إلى الشاطئ، ومن التعليم إلى الشفاء، يعلن المسيح نفسه كنور في الظلمة، ويقدم نموذجًا للانتصار على الشر والدعوة إلى الملكوت.

كل مؤمن مدعو اليوم أن يتأمل في هذا الإصحاح، لا كقصة ماضية، بل كرسالة حيّة تدعوه إلى التوبة، والتلمذة، والثقة في يسوع الذي لا يهزم أمام التجربة، والذي لا يُهمّش أحدًا من نوره وخلاصه.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url