ما هي الطوائف المسيحية وما الفرق بينها؟

كم طائفة يوجد في الديانة المسيحية؟
ما هي الطوائف المسيحية وما الفرق بينها؟



تُعد المسيحية، بأعداد تابعيها الهائلة وتنوعها الجغرافي والثقافي، أكبر ديانة في العالم. لكن هذا الحجم الهائل لا يعني بالضرورة وحدة الممارسة أو الفهم اللاهوتي. على مر القرون، انقسمت الكنيسة الواحدة إلى مذاهب وطوائف متعددة، لكل منها تاريخها الخاص، وعقائدها المميزة، وطقوسها الفريدة. هذا التنوع يُثير تساؤلات كثيرة لدى المهتمين: كم عدد هذه الطوائف؟ وما هي الفروقات الجوهرية بينها؟ وهل هناك "مذهب صحيح" واحد في المسيحية؟ هذه المقالة ستغوص في أعماق هذا التنوع، مُقدمةً شرحاً مفصلاً للطوائف الرئيسية، جذورها التاريخية، والاختلافات اللاهوتية والطقسية التي تميز كل منها، مع التأكيد على روح الوحدة في التنوع التي تسعى المسيحية للحفاظ عليها.



أقرأ ايضا:

هل المسيحية هي النصرانية؟
هل المسيحية تحرم الزنا؟
هل المسيحية ديانة أم شريعة؟
هل المسيح نبي أم إله؟ فهم لاهوتي متعمق




الديانة المسيحية ومذاهبها


الديانة المسيحية، في جوهرها، تتمحور حول الإيمان بيسوع المسيح كابن الله المخلص. لكن هذا الإيمان الواحد انبثقت منه مذاهب عديدة عبر التاريخ، لكل منها تفسيرها الخاص للكتاب المقدس، وفهمها للعقائد، وطريقتها في ممارسة العبادة. هذه المذاهب ليست مجرد "فروع" عشوائية، بل هي نتاج تطورات تاريخية معقدة، وخلافات لاهوتية، وانشقاقات سياسية وثقافية تراكمت عبر قرون طويلة. يمكن القول إن المذاهب المسيحية الكبرى تمثل "عائلات" كنسية، داخل كل عائلة توجد طوائف فرعية أصغر. هذا التنوع يعكس ثراء الفكر اللاهوتي، ولكنه أيضاً يطرح تحديات في فهم الوحدة المسيحية.








كم عدد طوائف المسيحية؟


تحديد العدد الدقيق للطوائف المسيحية أمر بالغ الصعوبة، ويكاد يكون مستحيلاً. فالمسيحية ليست جسماً واحداً متجانساً، بل هي شبكة معقدة من الكنائس المستقلة، والتجمعات المحلية، والحركات الروحية. إذا نظرنا إلى المذاهب الكبرى، يمكننا تحديد ثلاثة أو أربعة فروع رئيسية: الكنيسة الكاثوليكية، والكنائس الأرثوذكسية الشرقية، والكنائس البروتستانتية، بالإضافة إلى الكنائس الشرقية القديمة (الأرثوذكسية المشرقية وكنيسة المشرق).


لكن داخل كل من هذه الفروع الكبرى، توجد مئات، بل آلاف الطوائف الفرعية. فمثلاً، البروتستانتية وحدها تتضمن عددًا لا يُحصى من الكنائس مثل المعمدانيين، والميثوديين، واللوثريين، والمشيخيين، والخمسينيين، والسبتيين، وغيرها الكثير، وكل منها قد يحتوي على تفرعات داخلية. بعض هذه التفرعات كبيرة ولها حضور عالمي، بينما البعض الآخر صغير ومحلي. علاوة على ذلك، تستمر الطوائف الجديدة في الظهور، خاصة في مناطق معينة، مما يجعل حصرها الدقيق تحديًا مستمرًا للمؤرخين وعلماء الأديان. بالتالي، يمكن القول إن عدد الطوائف المسيحية يتجاوز الآلاف، ولا يوجد رقم محدد ومتفق عليه عالمياً.









كم يوجد من طائفة مسيحية؟


بناءً على ما سبق، فإن السؤال عن كم يوجد من طائفة مسيحية يحمل إجابة متشعبة. لا يوجد رقم موحد يمكن الإشارة إليه، لأنه يعتمد على كيفية تعريف "الطائفة". هل نعتبر كل جماعة لها اسم مختلف طائفة؟ أم نقتصر على التجمعات الكبيرة ذات التاريخ اللاهوتي المميز؟

إذا تحدثنا عن الفروع الرئيسية ذات الأهمية التاريخية واللاهوتية الكبرى، فإننا نتحدث عن الكاثوليكية، الأرثوذكسية الشرقية، والأرثوذكسية المشرقية، وكنيسة المشرق، والبروتستانتية بفروعها الكبرى. داخل هذه الفروع، يمكن أن نجد الآلاف من التجمعات الكنسية. على سبيل المثال:

  • الكنيسة الكاثوليكية: هي الكنيسة الأكبر والأكثر تنظيماً مركزياً تحت سلطة البابا في روما. ورغم وجود طقوس مختلفة (مثل اللاتيني والبيزنطي)، إلا أنها تُعد طائفة واحدة موحدة.

  • الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: تتكون من عدد من الكنائس المستقلة (الأوتوكيفالية) التي تشترك في نفس اللاهوت والطقس (مثل بطريركية القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية، القدس، الروسية، الصربية، اليونانية، وغيرها). رغم استقلالها الإداري، يعتبرون أنفسهم جسداً واحداً.

  • الكنائس الأرثوذكسية المشرقية (غير الخلقيدونية): مثل الكنائس القبطية، السريانية، الأرمنية، الإثيوبية، الإريترية، والمالانكارا السريانية. هذه الكنائس أيضاً تعتبر نفسها جسداً واحداً في اللاهوت، لكنها مستقلة إدارياً.

  • كنيسة المشرق: وهي الكنيسة الآشورية القديمة وكنيسة المشرق الآشورية.

  • البروتستانتية: هذا هو الفرع الأكثر تنوعاً، حيث يضم المئات من الطوائف مثل المعمدانيين، الميثوديين، اللوثريين، المشيخيين، الأنجليكان، الخمسينيين، الإنجيليين، الأدفنتست، الكويكرز، وغيرها الكثير. كل واحدة من هذه الفروع الكبرى لديها تاريخها، عقائدها، وطقوسها الخاصة، وتتفرع بدورها إلى جماعات أصغر.

لذلك، يمكن القول إن المذاهب المسيحية الرئيسية تتركز في عدد قليل من الفروع التاريخية الكبرى، بينما تتفرع هذه الفروع إلى آلاف الطوائف والجماعات الفرعية التي تختلف في تفاصيل عقائدية أو طقسية أو إدارية.







ما هي أسماء المذاهب المسيحية؟


عند الحديث عن أسماء المذاهب المسيحية، يجب التفريق بين المذاهب الكبرى التي تمثل الانشقاقات التاريخية الرئيسية، والطوائف الفرعية التي تتفرع منها. المذاهب الرئيسية التي تشكل العمود الفقري للمسيحية اليوم هي:


1. الكنيسة الكاثوليكية


تُعد الكنيسة الكاثوليكية أكبر المذاهب المسيحية عالميًا، وتتميز بوجود سلطة مركزية متمثلة في البابا كأسقف لروما ورئيس للكنيسة الجامعة. تؤمن الكنيسة بالتقليد الرسولي المتصل من خلال succession الرسولي (خلافة الرسل)، وتؤكد على الأسرار السبعة (المقدسة)، ودور مريم العذراء والقديسين. تشمل الكنيسة الكاثوليكية الطقس اللاتيني (الغربي) وعدداً من الطقوس الشرقية الكاثوليكية التي تحتفظ بتقاليدها الخاصة لكنها في شركة كاملة مع روما.



2. الكنائس الأرثوذكسية الشرقية


انفصلت عن الكنيسة الغربية في الانشقاق الكبير عام 1054م. تتكون من مجموعة من الكنائس المستقلة ذاتياً (أوتوكيفالية) والتي تتفق في اللاهوت والطقوس. من أبرزها: بطريركية القسطنطينية المسكونية، بطريركية أنطاكية وسائر المشرق، بطريركية الإسكندرية وسائر أفريقيا، بطريركية القدس، الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، الكنيسة الصربية الأرثوذكسية، وغيرها. تتميز بتركيزها على الليتورجيا الإلهية الغنية، واحترام الأيقونات، والتمسك بالتقليد الرسولي والقرارات المجامع المسكونية السبعة الأولى.



3. الكنائس الأرثوذكسية المشرقية


تُعرف أحياناً بـ "الكنائس غير الخلقيدونية"، وقد انفصلت عن التيار الرئيسي للمسيحية بعد مجمع خلقيدونية عام 451م بسبب خلافات لاهوتية حول طبيعة المسيح (تؤمن بالطبيعة الواحدة المتجسدة للمسيح بدلاً من طبيعتين منفصلتين). من أبرزها: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، الكنيسة الأرمنية الرسولية، كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية، كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإريترية، وكنيسة مالانكارا السريانية الأرثوذكسية في الهند.



4. كنيسة المشرق


تاريخياً، انفصلت هذه الكنيسة قبل مجمع أفسس عام 431م، وتُعرف أحياناً بـ "النسطورية" (وهو مصطلح ترفضه الكنيسة نفسها). تنقسم اليوم إلى كنيسة المشرق الآشورية وكنيسة المشرق القديمة. لها انتشار تاريخي واسع في آسيا.



5. البروتستانتية


ظهرت في القرن السادس عشر نتيجة حركة الإصلاح البروتستانتي بقيادة شخصيات مثل مارتن لوثر وجون كالفن. تتميز بعدم وجود سلطة مركزية واحدة، والتركيز على مبادئ مثل "سولا سكريبتورا" (الكتاب المقدس وحده هو السلطة)، و"سولا فيدي" (الخلاص بالإيمان وحده)، و"كهنوت جميع المؤمنين". تنقسم البروتستانتية إلى عدد هائل من الطوائف الفرعية، أبرزها:

  • اللوثريون: أتباع مارتن لوثر، ينتشرون بشكل خاص في ألمانيا والدول الاسكندنافية.
  • الكالفينيون (المشيخيون / المصلحون): أتباع جون كالفن، يؤكدون على سيادة الله المطلقة.
  • المعمدانيون (Baptists): يؤمنون بمعمودية المؤمنين (البالغين) فقط بالغمر الكامل.
  • الميثوديون (Methodists): أسسها جون ويسلي، وتركز على القداسة الشخصية والخدمة الاجتماعية.
  • الأنجليكان (Anglicans / Episcopalians): نشأت في إنجلترا، وتُعد مزيجاً من التقاليد الكاثوليكية والبروتستانتية.
  • الخمسينيون (Pentecostals): يركزون على اختبارات الروح القدس، مثل التكلم بألسنة والشفاء الإلهي.
  • الإنجيليون (Evangelicals): حركة واسعة تركز على الكتاب المقدس، الولادة الثانية، والتبشير.
  • الأدفنتست السبتيون (Seventh-day Adventists): يؤمنون بعودة المسيح الوشيكة ويحفظون يوم السبت.


هذه هي المذاهب المسيحية الرئيسية التي تشكل المشهد الكنسي العالمي. كل منها يمثل تياراً لاهوتياً وتاريخياً مميزاً ضمن النسيج الأوسع للمسيحية.






ما الفرق بين المذاهب المسيحية؟


تتعدد الفروقات بين المذاهب المسيحية، وتتراوح بين مسائل لاهوتية عميقة، واختلافات في الممارسات الطقسية، وتباينات في الهيكل الكنسي. فهم هذه الفروقات يتطلب استعراض النقاط الجوهرية التالية:


1. السلطة الكنسية والمصادر اللاهوتية


  • الكنيسة الكاثوليكية: تُعتبر الكتاب المقدس والتقليد المقدس (الذي يشمل تعليم آباء الكنيسة، المجامع المسكونية، والتعاليم البابوية) مصدرين للسلطة. يؤمنون بسلطة البابا المطلقة كأسقف روما وريث بطرس، وبأن قراراته في مسائل الإيمان والأخلاق (عندما يتكلم من كرسي بطرس) معصومة.

  • الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والمشرقية: تؤكد على أهمية الكتاب المقدس والتقليد المقدس أيضاً، لكنها لا تعترف بسلطة البابا المطلقة. بدلاً من ذلك، تؤمن بأن السلطة العليا تكمن في المجامع المسكونية (التي تجمع أساقفة العالم)، وتؤكد على أهمية آباء الكنيسة. ليس لديهم رأس واحد للكنيسة، بل رؤساء كنائس مستقلة (بطاركة) متساوون في الرتبة، ويحترمون بطريرك القسطنطينية كـ "أول بين متساوين".

  • البروتستانتية: يركزون بشكل أساسي على مبدأ "سولا سكريبتورا" (الكتاب المقدس وحده)، معتبرين الكتاب المقدس المصدر الوحيد والأعلى للسلطة في الإيمان والممارسة. يختلف مدى أهمية التقليد الكنسي من طائفة بروتستانتية لأخرى، لكنه لا يُوضع أبدًا في مستوى مساوٍ للكتاب المقدس. لا يوجد لديهم سلطة مركزية موحدة عالمياً كالكاثوليكية أو الأرثوذكسية.


2. طبيعة المسيح (الكريستولوجيا)


  • الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية: تؤمن بوجود طبيعتين كاملتين في المسيح (إلهية وبشرية) متحدتين في أقنوم واحد دون اختلاط أو امتزاج أو انفصال (وفقاً لمجمع خلقيدونية).

  • الكنائس الأرثوذكسية المشرقية: تؤمن بوجود طبيعة واحدة متجسدة للمسيح (ميتافيزيقية) بعد الاتحاد، حيث اتحدت الطبيعة الإلهية والبشرية لتصبح طبيعة واحدة، دون أن تلتبس أو تختلط (وفقاً لمجمع أفسس). هذا الاختلاف كان سبباً رئيسياً لانفصالهم التاريخي.

  • كنيسة المشرق: تؤمن بأن المسيح له طبيعتان منفصلتان (إلهية وبشرية) في أقنومين مختلفين لكن متصلين. هذا هو التفسير الذي أدى إلى اتهامها بالنسطورية.

  • البروتستانتية: تتبنى عموماً عقيدة خلقيدونية حول طبيعتي المسيح، لكنها لا تركز على هذه التفاصيل اللاهوتية الدقيقة بنفس القدر الذي تفعله الكنائس الشرقية أو الكاثوليكية.

3. الأسرار المقدسة (الطقوس)


  • الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية والمشرقية: تؤمن بوجود سبعة أسرار مقدسة (أو "أسرار الكنيسة") وهي: المعمودية، الميرون (التثبيت)، الإفخارستيا (التناول)، التوبة والاعتراف، مسحة المرضى، الزواج، والكهنوت. وتعتبر هذه الأسرار قنوات حقيقية للنعمة الإلهية.

  • البروتستانتية: تختلف في عدد الأسرار. معظم الطوائف البروتستانتية تعترف بسرين رئيسيين فقط: المعمودية والعشاء الرباني (الإفخارستيا). وتختلف في فهم طبيعة هذه الأسرار؛ فبعضها يراها كـ "رموز" أو "علامات" للإيمان، بينما يرى البعض الآخر أن المسيح حاضر فيها بشكل روحي ولكن ليس بالضرورة جسديًا (كما في الفهم الكاثوليكي والأرثوذكسي).


4. دور مريم العذراء والقديسين


  • الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية والمشرقية: تُعلي من شأن مريم العذراء، وتُطلق عليها لقب "والدة الإله" (ثيوتوكس)، وتؤمن بشفاعتها ودورها الفريد في الخلاص. كما تُكرم القديسين وتؤمن بشفاعتهم، وتُمارس التمجيد لهم وطلب صلواتهم. تُستخدم الأيقونات والتماثيل في العبادة لتكريمهم.

  • البروتستانتية: لا تمنح مريم العذراء والقديسين نفس المكانة. تُكرم مريم كأم يسوع، لكنها لا تؤمن بشفاعتها أو شفاعة القديسين، وترفض مفهوم الصلاة لهم أو طلب وساطتهم، معتبرةً أن المسيح هو الشفيع الوحيد. كما أنها لا تستخدم الأيقونات أو التماثيل في العبادة بنفس الطريقة.


5. الممارسات الطقسية والعبادة


  • الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية (الشرقية والمشرقية): تتميز بطقوس غنية ومعقدة، واستخدام البخور، الأيقونات، الشموع، والملابس الكهنوتية المزخرفة. الليتورجيا (القداس الإلهي) تكون طويلة وذات تسلسل ثابت ومحدد يعود إلى قرون مضت.

  • البروتستانتية: تتميز ببساطة أكبر في العبادة. التركيز يكون على الوعظ بكلمة الله، قراءة الكتاب المقدس، والتسبيح. تختلف الطقوس بشكل كبير بين الطوائف البروتستانتية، فبعضها قد يكون أكثر رسمية (كالأنجليكان)، والبعض الآخر عفوي ومتحمس (كالخمسينيين).


6. الصوم


  • الكنائس الأرثوذكسية (الشرقية والمشرقية): لديها نظام صوم صارم وطويل الأمد يشمل الامتناع عن اللحوم، منتجات الألبان، الأسماك، الزيت، والنبيذ في فترات محددة من السنة (مثل الصوم الكبير، صوم الميلاد، صوم الرسل، صوم العذراء).

  • الكنيسة الكاثوليكية: لديها فترات صوم أقل صرامة، تتركز عادةً في الصوم الكبير وفي أيام معينة (مثل الجمعة العظيمة)، وتُفرض بشكل أساسي على الامتناع عن اللحوم.

  • البروتستانتية: لا تُمارس الصوم بنفس النظام المؤسسي، وإن كان بعض الأفراد أو الطوائف قد يختارون الصوم كعبادة شخصية دون أن يكون إلزامياً على مستوى الكنيسة.


هذه الفروقات تمثل أهم الانقسامات التي شكلت المشهد المسيحي على مدى ألفي عام، وكل منها يعكس فهماً لاهوتياً وتاريخياً مختلفاً لجوانب أساسية من الإيمان والممارسة.






ما هو المذهب الصحيح في المسيحية؟


السؤال عن ما هو المذهب الصحيح في المسيحية هو سؤال معقد ومثير للجدل، ولا توجد إجابة واحدة متفق عليها عالميًا بين جميع الطوائف المسيحية. كل مذهب مسيحي يؤمن بأنه يمثل الاستمرارية الحقيقية للإيمان الرسولي الأصيل، وأنه يحتفظ بالفهم الأصح للكتاب المقدس والتقليد المسيحي.


  • بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية: تؤمن بأنها هي الكنيسة الواحدة، المقدسة، الجامعة، الرسولية التي أسسها المسيح على بطرس. وتُقدم نفسها كسفينة الخلاص الوحيدة، معترفةً بأن الخلاص ممكن خارج حدودها لكنها هي الوسيلة الكاملة لتحقيقه. يُنظر إلى البابا كخليفة لبطرس، ولها السلطة التعليمية النهائية.

  • بالنسبة للكنائس الأرثوذكسية الشرقية والمشرقية: تؤمن بأنها هي "الأرثوذكسية" الحقيقية، أي "الإيمان المستقيم" أو "العقيدة الصحيحة". يرون أنهم حافظوا على الإيمان الرسولي دون تغيير أو انحراف منذ الكنيسة الأولى، وأنهم لم يضيفوا أي جديد للعقيدة كما فعلت الكنيسة الغربية (مثل عقيدة انبثاق الروح القدس من الابن والآب Filioque، أو عصمة البابا). يعتبرون أن الانشقاقات حدثت بسبب انحرافات الكنائس الأخرى عن الإيمان الأصيل.

  • بالنسبة للطوائف البروتستانتية: ترى أن حركة الإصلاح البروتستانتي كانت ضرورية لتصحيح ما اعتبروه "أخطاءً" و"انحرافات" في الكنيسة الكاثوليكية (خاصة في العصور الوسطى). يؤكدون على أهمية الكتاب المقدس وحده كمرجع للإيمان، وأن الخلاص يتم بالإيمان وحده، وأن لكل مؤمن الحق في فهم الكتاب المقدس بنفسه (كهنوت جميع المؤمنين). يرون أن العودة إلى "المسيحية المبكرة" و"إنجيل المسيح النقي" هو الطريق الصحيح.



من منظور تاريخي:

  • الكاثوليك يؤكدون على استمرارية الخلافة الرسولية غير المنقطعة من القديس بطرس.
  • الأرثوذكس يعتبرون أنهم حافظوا على العقيدة والطقوس كما كانت في الكنيسة الأولى، دون أي إضافات أو تعديلات.
  • البروتستانت يرون أن "العودة" إلى تعاليم الكتاب المقدس النقية هي الطريق الصحيح، وأن الكنيسة كانت قد انحرفت وتحتاج إلى إصلاح مستمر.

من منظور عقائدي:
  • الخلافات حول طبيعة المسيح (خلقيدونية وغير خلقيدونية).
  • فهم دور مريم العذراء والقديسين.
  • عدد الأسرار وطبيعتها.
  • السلطة الكنسية (البابا مقابل المجامع مقابل الكتاب المقدس وحده).




المسيحيون من مختلف الطوائف يشتركون في الإيمان بيسوع المسيح كرب ومخلص. الفروقات تكمن في تفسير هذا الإيمان وكيفية ممارسته. البحث عن "الطائفة الصحيحة" غالبًا ما يقود الفرد إلى دراسة هذه الاختلافات والتوصل إلى قناعة شخصية بناءً على فهمه للكتاب المقدس والتقليد. كثيرون يرون أن الوحدة الحقيقية تكمن في المسيح نفسه، وليس بالضرورة في الانتماء إلى طائفة معينة دون غيرها، بينما يرى آخرون أن الانتماء لطائفة معينة هو جزء لا يتجزأ من الإيمان السليم.





المذاهب المسيحية: نسيج غني من الإيمان المشترك


ختاما، لقد استعرضنا في هذا المقال الجوانب المتعددة للديانة المسيحية وتنوع مذاهبها وطوائفها. رأينا كيف أن المسيحية، على الرغم من إيمانها المشترك بيسوع المسيح، قد تفرعت إلى عائلات كنسية كبرى، ومن ثم إلى طوائف لا حصر لها، لكل منها تفسيرها الخاص للعقائد، وطقوسها، وهيكلها الإداري. من الكنيسة الكاثوليكية ذات التنظيم المركزي، إلى الكنائس الأرثوذكسية العريقة ذات التقاليد الشرقية الغنية، وصولاً إلى الطوائف البروتستانتية المتنوعة التي تؤكد على سلطة الكتاب المقدس والفردية في الإيمان، يتجلى غنى وتعدد الأوجه لمسيرة الإيمان المسيحي عبر التاريخ.



الفروقات بين هذه المذاهب ليست سطحية دائمًا؛ إنها تلامس جوهر فهم اللاهوت، طبيعة الخلاص، دور الكنيسة، والسلطة الروحية. ومع ذلك، فإن هذه الاختلافات لم تمنع الكثيرين من رؤية خيط مشترك يربط جميع المؤمنين بيسوع المسيح. في نهاية المطاف، يبقى التساؤل عن "المذهب الصحيح" أو "الطائفة الصحيحة" سؤالًا شخصيًا، يتطلب من كل مؤمن البحث والتأمل والصلاة للوصول إلى قناعة تتوافق مع إيمانه وفهمه لكلمة الله. الوحدة في التنوع هي أحد التحديات والجماليات في آن واحد داخل المسيحية، حيث تسعى الكنائس المختلفة، على الرغم من تبايناتها، إلى الحفاظ على شهادتها المشتركة للمسيح في عالم متغير.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url