تفسير إنجيل مرقس الأصحاح العاشر الفصل 10

تفسير إنجيل مرقس الأصحاح 10 الفصل العاشر
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح العاشر الفصل 10


يُعد الأصحاح العاشر من إنجيل مرقس استكمالًا للرحلة التي بدأها يسوع مع تلاميذه نحو أورشليم، حيث تتكشف مبادئ ملكوت الله بوضوح أكبر وتُعرض متطلبات التلمذة الحقيقية. يبدأ الأصحاح بتعليم يسوع حول الزواج والطلاق، مؤكدًا قدسية العلاقة الزوجية ورفض الطلاق إلا في حالات استثنائية، مما يُظهر مبادئ الملكوت التي تسمو على التقاليد البشرية. يليه تأكيد يسوع على أهمية قبول الأطفال وتقديمهم كنموذج للدخول إلى الملكوت، مما يُبرز قيمة التواضع والبراءة. ثم يُواجه يسوع الشاب الغني الذي يبحث عن الحياة الأبدية، ليكشف عن عوائق الثروة في طريق الملكوت، ويؤكد على أن الخلاص هو عمل إلهي خالص يتطلب التخلي عن الاعتماد على الذات. يتخلل الأصحاح التنبؤ الثالث والأكثر تفصيلًا بآلام يسوع وموته وقيامته، مما يُبرز مرة أخرى سوء فهم التلاميذ لطريق المسيح. يُختتم الأصحاح بقصة شفاء الأعمى برتيماوس، التي تُسلط الضوء على الإيمان والرغبة في اتباع المسيح، وتُمثل تحولًا من العجز الروحي إلى البصيرة.




شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد





تفسير إنجيل مرقس الأصحاح العاشر الفصل 10


  • (1) وَقَامَ مِنْ ذَاكَ الْمَوْضِعِ وَأَتَى إِلَى حُدُودِ الْيَهُودِيَّةِ، مُجْتَازًا مِنْ عَبْرِ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ؛ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ حُشُودٌ غَفِيرَةٌ كَعَادَتِهِ، وَكَانَ يُوَاصِلُ تَعْلِيمَهُمْ أَيْضًا.
  • (2) وَدَنَا الْفَرِّيسِيُّونَ مُسْتَفْسِرِينَ: «هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ لِغَرَضِ اخْتِبَارِهِ؟»
  • (3) فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟»
  • (4) فَرَدُّوا: «مُوسَى سَمَحَ بِكِتَابِ طَلَاقٍ يُعْطَى فَتُطَلَّقُ.»
  • (5) فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «مِنْ أَجْلِ قَسْوَةِ قُلُوبِكُمْ سَطَرَ لَكُمْ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ.
  • (6) وَلَكِنْ، مِنْ مُبْتَدَأِ الْخَلِيقَةِ، خَلَقَهُمُ الرَّبُّ ذَكَرًا وَأُنْثَى.
  • (7) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ وَيَلْتَصِقُ بِزَوْجَتِهِ،
  • (8) وَيُصْبِحُ الِاثْنَانِ كَيَانًا وَاحِدًا، فَلَيْسَا بَعْدُ مُنْفَصِلَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ.
  • (9) فَمَا أَقْرَنَهُ اللهُ لَا يُفَرِّقُهُ بَشَرٌ.»
  • (10) وَدَاخِلَ الْمَنْزِلِ، سَأَلَهُ تَلامِيذُهُ عَنْ ذَلِكَ الْمُعْضِلَةِ مَرَّةً أُخْرَى.
  • (11) فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَارْتَبَطَ بِأُخْرَى، يَزْنِي عَلَيْهَا.
  • (12) وَإِنْ فَارَقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ، تَزْنِي.»
  • (13) وَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ أَطْفَالًا لِيَلْمِسَهُمْ، فَزَجَرَهُمُ التَّلامِيذُ.
  • (14) فَلَمَّا عَايَنَ يَسُوعُ ذَلِكَ اسْتَاءَ، وَقَالَ لَهُمْ: «دَعُوا الصِّغَارَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلَا تَصُدُّوهُمْ، فَإِنَّ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ مُلْكَ الرَّبِّ.
  • (15) الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لَا يَقْبَلْ مُلْكَ الرَّبِّ كَمَا يَقْبَلُهُ طِفْلٌ، فَلَنْ يَدْخُلَهُ.»
  • (16) فَاِحْتَضَنَهُمْ بِحَنَانٍ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ.
  • (17) وَبَيْنَمَا هُوَ سَائِرٌ فِي الطَّرِيقِ، رَكَضَ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ أَمَامَهُ، وَسَأَلَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الْفَاضِلُ، مَاذَا يَجِبُ أَنْ أَفْعَلَ لِأَرِثَ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ؟»
  • (18) فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَنْعَتُنِي بِالْفَاضِلِ؟ لَيْسَ أَحَدٌ فَاضِلًا إِلَّا الْوَاحِدُ وَهُوَ اللهُ.
  • (19) أَنْتَ تَعِي الْوَصَايَا: لَا تَزْنِ. لَا تَقْتُلْ. لَا تَسْرِقْ. لَا تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لَا تَسْلُبْ. أَكْرِمْ وَالِدَيْكَ.»
  • (20) فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، كُلُّ هَذِهِ الْوَصَايَا الْتَزَمْتُ بِهَا مُنْذُ صِغَرِي.»
  • (21) فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ بِحُبٍّ، وَقَالَ لَهُ: «يَنْقُصُكَ أَمْرٌ وَاحِدٌ: اذْهَبْ بِعْ جَمِيعَ مُمْتَلَكَاتِكَ وَوَزِّعِ الثَّمَنَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تَعَالَ وَاتْبَعْنِي حَامِلًا صَلِيبَكَ.»
  • (22) فَاغْتَمَّ الْقَوْلُ بِهِ وَمَضَى وَالْحُزْنُ يَعْتَرِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِأَمْوَالٍ طَائِلَةٍ.
  • (23) فَنَظَرَ يَسُوعُ مِنْ حَوْلِهِ وَقَالَ لِتَلامِيذِهِ: «مَا أَصْعَبَ دُخُولَ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ إِلَى مُلْكِ الرَّبِّ!»
  • (24) فَتَحَيَّرَ التَّلامِيذُ مِنْ كَلَامِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ: «يَا أَبْنَائِي، مَا أَشَقَّ دُخُولَ الْمُعْتَمِدِينَ عَلَى ثَرَوَاتِهِمْ إِلَى مُلْكِ الرَّبِّ!
  • (25) عُبُورُ جَمَلٍ مِنْ خُرْمِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ دُخُولِ غَنِيٍّ إِلَى مُلْكِ الرَّبِّ!»
  • (26) فَبُهِتُوا غَايَةَ الْبُهْتانِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «إِذَنْ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلَّصَ؟»
  • (27) فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «عِنْدَ الْبَشَرِ هَذَا مُسْتَحِيلٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَ الرَّبِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُتَاحٌ لَدَى الرَّبِّ.»
  • (28) وَابْتَدَأَ بُطْرُسُ يَقُولُ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَسِرْنَا فِي إِثْرِكَ.»
  • (29) فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ مَنْزِلًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ زَوْجَةً أَوْ أَبْنَاءً أَوْ حُقُولًا، مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الْبِشَارَةِ،
  • (30) إِلَّا وَيَنَالُ مِائَةَ ضِعْفٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ: بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَبْنَاءً وَحُقُولًا، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ؛ وَفِي الدَّهْرِ الْآتِي الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ.
  • (31) وَكَثِيرُونَ مِنْ أَوَائِلِ النَّاسِ سَيَكُونُونَ أَوَاخِرَ، وَأَوَاخِرُهُمْ سَتَصِيرُ أَوَائِلَ.»
  • (32) وَكَانُوا فِي الطَّرِيقِ مُصْعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَسُوعُ يَتَصَدَّرُهُمْ. وَكَانَ الْأَمْرُ يُثِيرُ حَيْرَتَهُمْ، وَبَيْنَمَا هُمْ يَتْبَعُونَهُ، اسْتَبَدَّ بِهِمُ الْخَوْفُ. فَرَجَعَ وَأَخَذَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مُجَدَّدًا، وَبَدَأَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا سَيَحْدُثُ لَهُ:
  • (33) «هَا نَحْنُ نَتَّجِهُ صَوْبَ أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الْإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيُصْدِرُونَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الْأُمَمِ.
  • (34) فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَيَقُومُ.»
  • (35) وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، ابْنَا زَبْدِي، قَائِلَيْنِ: «يَا مُعَلِّمُ، نَتَمَنَّى أَنْ تُحَقِّقَ لَنَا كُلَّ مَا نَتَمَنَّاهُ.»
  • (36) فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَرْغَبَانِ أَنْ أُتِمَّ لَكُمَا؟»
  • (37) فَقَالَا لَهُ: «اجْعَلْنَا نَجْلِسُ أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ.»
  • (38) فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَسْأَلَانِ. هَلْ بِوُسْعِكُمَا شُرْبُ الْكَأْسِ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَالِاصْطِبَاغُ بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟»
  • (39) فَقَالَا لَهُ: «بِوُسْعِنَا.» فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَمَّا الْكَأْسُ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَسَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا سَتَصْطَبِغَانِ.
  • (40) وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُسْنِدَهُ إِلَّا لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ.»
  • (41) وَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ الْآخَرُونَ، بَدَأُوا يَغْضَبُونَ عَلَى يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا.
  • (42) فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الْأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ.
  • (43) فَلَا يَكُنْ الْأَمْرُ هَكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَغْدُوَ عَظِيمًا بَيْنَكُمْ فَلْيَكُنْ خَادِمًا لَكُمْ.
  • (44) وَمَنْ رَغِبَ فِي أَنْ يَصِيرَ الْأَوَّلَ فِيكُمْ فَلْيَكُنْ عَبْدًا لِلْجَمِيعِ.
  • (45) لِأَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذُلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ جُمُوعٍ غَفِيرَةٍ.»
  • (46) وَوَصَلُوا إِلَى أَرِيحَا. وَبَيْنَمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا بِرِفْقَةِ تَلامِيذِهِ وَحَشْدٍ كَبِيرٍ، كَانَ بَرْتِيمَاوُسُ الْأَعْمَى، ابْنُ تِيمَاوُسَ، جَالِسًا عَلَى حَافَّةِ الطَّرِيقِ يَلْتَمِسُ الْعَوْنَ.
  • (47) فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ، بَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، اِرْحَمْنِي!»
  • (48) فَزَجَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَلْتَزِمَ الصَّمْتَ، فَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا صُرَاخًا أَكْثَرَ: «يَا ابْنَ دَاوُدَ، اِرْحَمْنِي!»
  • (49) فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى بِهِ. فَنَادَوْا الْأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ: «تَقَوَّى! قُمْ! هَا هُوَ يَدْعُوكَ!»
  • (50) فَطَرَحَ رِدَاءَهُ، وَقَامَ مُسْرِعًا وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ.
  • (51) فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أُفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَى: «يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ!»
  • (52) فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ مَنَحَكَ الشِّفَاءَ.» فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ، وَسَارَ فِي إِثْرِ يَسُوعَ عَلَى الطَّرِيقِ.




1. تعليم الزواج والطلاق: قدسية العهد


يُسافر يسوع إلى منطقة اليهودية عبر الأردن، حيث تتجمع الجموع حوله ليتعلموا منه كعادته. يأتيه الفريسيون، في محاولة لاختباره وإيقاعه في فخ، يسألون عن شرعية طلاق الرجل لزوجته. كانت الشريعة الموسوية تسمح بالطلاق في ظروف معينة (تثنية 24: 1)، وكان هناك خلاف بين مدرستي شمّاي وهلّيل حول أسباب الطلاق المشروعة.


يجيبهم يسوع بسؤال يوجههم إلى جوهر الشريعة: "بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟" وعندما يشيرون إلى إذن موسى بالطلاق، يكشف يسوع عن الحقيقة الأعمق: "مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ." بمعنى أن هذا الإذن لم يكن القصد الإلهي الأصلي، بل هو تنازل بسبب خطية الإنسان وعناده.



ثم يعود يسوع إلى بداية الخليقة، إلى قصد الله الأصلي للزواج: "مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللهُ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. فَلَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَمَا جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ." هنا يؤكد يسوع على قدسية الزواج كوحدة جسدية وروحية، وهو عهد لا ينبغي أن يُكسر.

في البيت، يسأله تلاميذه بمفردهم عن هذا الأمر، فيشرح لهم يسوع بوضوح أن من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يرتكب الزنا، وكذلك المرأة التي تطلق رجلها وتتزوج بآخر. هذا التأكيد يُبرز رؤية يسوع الثورية للزواج كعهد دائم وغير قابل للكسر، وهو مبدأ أساسي في ملكوت الله الذي يتجاوز التفسيرات الحرفية والضيقة للشريعة.





2. مباركة الأطفال: نموذج لدخول الملكوت


يُقدم الأطفال إلى يسوع لكي يلمسهم ويباركهم، لكن التلاميذ ينتهرون الذين أحضروهم، ربما لاعتقادهم أن يسوع مشغول بأمور أهم أو أن الأطفال لا قيمة لهم. لكن يسوع "اغْتَاظَ" من تصرف تلاميذه، وهو تعبير قوي يُظهر شدة رفضه لموقفهم.


يقول يسوع بوضوح: "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ." ليس هذا فحسب، بل يضيف مبدأً أساسيًا: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلْ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلْهُ." الأطفال يمثلون البراءة، التواضع، الاعتماد الكامل، والقبول غير المشروط. هذه الصفات هي التي تمكن الإنسان من دخول ملكوت الله. ثم يعبر يسوع عن محبته واحتضانه للأطفال، ويضع يديه عليهم ويباركهم، مما يُظهر قيمتهم في عينيه ويدعو إلى تقديرهم والاعتناء بهم.






3. الشاب الغني: عائق الثروة والخلاص الإلهي


عندما يخرج يسوع إلى الطريق، يأتي إليه شاب غني راكضًا ويجثو أمامه، ويسأله: "أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟" يسوع لا يقبل لقب "الصالح" بسهولة إلا في سياق يوضح أن الصلاح المطلق هو لله وحده.

يوجه يسوع الشاب إلى الوصايا، ليس بمعنى أن حفظ الوصايا وحده يكفي للخلاص، بل ليُظهر له النقص في بره الذاتي. عندما يؤكد الشاب أنه حفظ كل هذه الوصايا منذ صغره، "نَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ." هذه المحبة تُظهر أن يسوع لم يكن ينتقده، بل كان يرغب في إرشاده إلى كمال الإيمان.



يقول يسوع للشاب: "يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ." هذا التحدي لم يكن مجرد دعوة للفقر، بل دعوة للتخلي عن أي شيء يعيق اتباعه الكامل، وفي حالة هذا الشاب، كان المال هو العائق. الأمر لا يتعلق بكون الثروة شرًا في حد ذاتها، بل بالاعتماد عليها أو بجعلها صنمًا. حُزن الشاب وذهابه يُظهران أن ماله كان أهم بالنسبة له من الحياة الأبدية واتباع المسيح.

ينظر يسوع حوله ويقول لتلاميذه: "مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!" يتحير التلاميذ من كلامه، فيوضح يسوع: "يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! مُرُورُ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!" هذا المثل الصعب يُبرز استحالة الخلاص بالجهد البشري والاعتماد على الذات أو على الثروة.



يُدهش التلاميذ ويسألون: "فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟" فيجيب يسوع: "عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ. لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ." هذا يؤكد أن الخلاص هو عمل نعمة إلهية خالصة، لا يعتمد على قدرة الإنسان أو ثروته، بل على قوة الله وحده.

يتدخل بطرس، ويشير إلى أنهم قد تركوا كل شيء وتبعوه. يؤكد يسوع لهم أن كل من يترك بيته أو عائلته أو ممتلكاته "لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ" سيُكافأ مئة ضعف في هذا الزمان وفي الدهر الآتي بالخياة الأبدية، مع الإشارة إلى الاضطهادات. ويختتم بمبدأ "وَكَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ"، مما يؤكد أن معايير الملكوت تختلف عن معايير العالم.






4. التنبؤ الثالث بالآلام: قمة التضحية والخدمة


بينما يسوع وتلاميذه في طريقهم صاعدين إلى أورشليم، يتقدمهم يسوع، ويلاحظ التلاميذ حيرتهم وخوفهم. يعود يسوع ويأخذ الاثني عشر جانبًا، ويبدأ في شرح ما سيحدث له، وهذا هو التنبؤ الثالث والأكثر تفصيلًا بآلامه:

"هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ. فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ."



على الرغم من هذه التفاصيل الواضحة، يظل التلاميذ غارقين في مفاهيمهم الدنيوية عن الملكوت. يظهر ذلك مباشرة عندما يتقدم يعقوب ويوحنا، ابنا زبدي، ويطلبان من يسوع أن يُجلسا واحدًا عن يمينه والآخر عن يساره في مجده. هذا الطلب يكشف عن طموحاتهم الشخصية وسعيهم للمكانة والسلطة، ويدل على أنهم لم يستوعبوا بعد طبيعة ملكوت الله القائمة على التضحية والخدمة.

يسألهم يسوع: "أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟" الكأس هنا تشير إلى الآلام والموت، والصبغة إلى المعمودية بالآلام. يجيبان بثقة: "نَسْتَطِيعُ." فيؤكد يسوع أنهما سيشاركان في آلامه، لكن الجلوس عن يمينه ويساره ليس من اختصاصه، بل هو لمن أعد لهم.



عندما يسمع العشرة الآخرون هذا، يغتاظون من يعقوب ويوحنا، مما يُظهر أنهم أيضًا كانوا يفكرون في المكانة. يدعوهم يسوع ويُعلمهم درسًا أساسيًا في القيادة في ملكوت الله: "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلَيْسَ هَكَذَا يَكُونُ فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا."

يُقدم يسوع نفسه كنموذج أعلى لهذا المبدأ: "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذُلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ." هذه الآية هي جوهر رسالة يسوع، فمجده ليس في السلطة الأرضية، بل في التضحية والفداء.





5. شفاء برتيماوس الأعمى: الإيمان والبصيرة الروحية


بينما يخرج يسوع من أريحا مع تلاميذه وجمع غفير، يصادفون برتيماوس الأعمى، ابن تيماوس، جالسًا يستعطي. عندما يسمع أن يسوع الناصري يمر، يبدأ في الصراخ بإلحاح: "يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، اِرْحَمْنِي!" هذا النداء يُظهر إيمان برتيماوس بأن يسوع هو المسيح المنتظر (ابن داود)، وهو إيمان يفوق بصيرة الكثيرين ممن يتبعون يسوع جسديًا.

ينتهره كثيرون ليصمت، لكنه يصرخ أكثر وأكثر، مما يدل على شدة رغبته وإيمانه. يستجيب يسوع لإيمانه ويأمر أن يُنادى. يشجعه الناس: "ثِقْ! قُمْ! هُوَذَا يُنَادِيكَ!" في الحال، يطرح برتيماوس رداءه (ربما لأنه كان يثق بأنه لن يحتاجه بعد الآن أو للتخلص من أي عائق) ويأتي إلى يسوع.



يسأله يسوع: "مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟" وهذا سؤال يفتح المجال للإيمان. يجيب الأعمى: "يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ!" فيقول له يسوع: "اِذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ." ففي الحال يُبصر برتيماوس، والجدير بالذكر أنه لم يذهب كما أمره يسوع، بل "تَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ." هذا يُظهر أن الشفاء الجسدي قاده إلى تلمذة حقيقية، وأصبح بصره الجديد وسيلة لاتباع المسيح. قصة برتيماوس هي خاتمة قوية للأصحاح، حيث يمثل الأعمى الذي يرى حقيقة يسوع الطريق الواضح للملكوت.






الأصحاح العاشر: دعوة إلى التلمذة الجذرية


في الختام، يُقدم الأصحاح العاشر من إنجيل مرقس دروسًا عميقة حول طبيعة ملكوت الله ومتطلبات التلمذة:

قدسية العهود: يُعلمنا يسوع عن قدسية الزواج كعهد إلهي، مما يُظهر أن ملكوت الله يُقيم العلاقات على أساس المبادئ الإلهية لا التقاليد البشرية.


التواضع كطريق للملكوت: يُقدم الأطفال كنموذج للدخول إلى الملكوت، مؤكدًا أن التواضع والاعتمادية هما مفتاح القبول في عين الله.


خطر الثروة والاعتماد على الذات: يُظهر يسوع أن الثروة يمكن أن تكون عائقًا كبيرًا أمام الخلاص إذا اعتمد عليها الإنسان، ويُسلط الضوء على أن الخلاص هو عمل إلهي خالص.


طريق الخدمة والتضحية: يُوضح يسوع لتلاميذه أن العظمة الحقيقية في ملكوت الله تكمن في الخدمة والتضحية، وليس في السعي للسلطة والمجد الشخصي، ويقدم نفسه كنموذج أبدي لذلك.



الإيمان والبصيرة الروحية: تُبرز قصة برتيماوس قوة الإيمان في الشفاء الجسدي والروحي، وتُظهر أن من يرى يسوع حقًا يتبعه في طريقه.

يدعو هذا الأصحاح كل قارئ إلى فحص أولوياته وعوائقه في الحياة. هل نحن مستعدون للتخلي عن كل ما يعيقنا عن اتباع يسوع بالكامل؟ هل نفهم أن العظمة الحقيقية تكمن في الخدمة والتواضع؟ وهل نتمتع ببصيرة الإيمان التي تمكننا من رؤية يسوع واتباعه في طريقه، مهما كانت التكلفة؟

مقالات ذات صلة

المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url