تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الثاني الفصل 2

تفسير إنجيل مرقس الأصحاح 2 الفصل الثاني
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الثاني الفصل 2


يعرض الأصحاح الثاني من إنجيل مرقس مجموعة من الأحداث التي تكشف عن هوية يسوع وسلطانه الإلهي، وتُظهر تصاعد التوتر بينه وبين القادة الدينيين. نراه يغفر الخطايا، ويقترب من الخطاة والمنبوذين، ويعيد تفسير مفاهيم كالصوم والسبت بروح جديدة. هذه الوقائع ليست مجرد معجزات، بل إعلانات عن ملكوت جديد يؤسسه يسوع، ملكوت يقوم على الرحمة والسلطان الإلهي، ويكسر القوالب الدينية التقليدية ليرسم علاقة جديدة بين الله والإنسان.



شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد







تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الثاني الفصل 2


1. ثُمَّ عَادَ بَعْدَ أَيَّامٍ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ، وَشَاعَ خَبَرُ وُجُودِهِ فِي الْبَيْتِ. (مرقس 2: 1)

2. فَاجْتَمَعَ فَوْرًا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَتَّسَعٌ، وَلَا حَتَّى عِنْدَ الْبَابِ. وَكَانَ يُلْقِي عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةَ. (مرقس 2: 2)

3. فَأَتَوْا إِلَيْهِ بِمَفْلُوجٍ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. (مرقس 2: 3)

4. وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ، كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ، وَبَعْدَمَا نَقَبُوا، دَلَّوْا الْفِرَاشَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ. (مرقس 2: 4)

5. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: "يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ." (مرقس 2: 5)

6. وَكَانَ بَعْضُ الْكَتَبَةِ جَالِسِينَ هُنَاكَ، وَهُمْ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: (مرقس 2: 6)

7. "لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هَذَا هَكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟" (مرقس 2: 7)

8. فَلِلْفَوْرِ عَلِمَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهَذِهِ الأُمُورِ فِي قُلُوبِكُمْ؟ (مرقس 2: 8)

9. أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ (مرقس 2: 9)

10. وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا – قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: (مرقس 2: 10)

11. لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ." (مرقس 2: 11)

12. فَقَامَ لِلْفَوْرِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ أَمَامَ الْجَمِيعِ، حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: "مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا قَطُّ!" (مرقس 2: 12)

13. ثُمَّ خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْبَحْرِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ كُلُّ الْجَمْعِ فَعَلَّمَهُمْ. (مرقس 2: 13)

14. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ، رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: "اتْبَعْنِي!" فَقَامَ وَتَبِعَهُ. (مرقس 2: 14)

15. وَإِذْ كَانَ مُتَّكِئًا فِي بَيْتِهِ، كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ.1 (مرقس 2: 15)

16. وَالْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ، قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: "لِمَاذَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟" (مرقس 2: 16)

17. فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: "لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ." (مرقس 2: 17)

18. وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيُّونَ يَصُومُونَ. فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ: "لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيُّونَ، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟" (مرقس 2: 18)

19. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا.2 (مرقس 2: 19)

20. وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. (مرقس 2: 20)

21. لاَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قُمَاشٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإلاَّ فَالرُّقْعَةُ الْجَدِيدَةُ تَأْخُذُ مِنْ الْعَتِيقِ، فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. (مرقس 2: 21)

22. وَلاَ يَضَعُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ، وَإلاَّ فَالْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ تَشُقُّ الزِّقَاقَ فَتَتْلَفُ الْخَمْرُ وَالزِّقَاقُ. بَلْ يَضَعُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ." (مرقس 2: 22)

وَاجْتَازَ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. (مرقس 2: 23)

24. فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: "انْظُرْ! لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟" (مرقس 2: 24)

25. فَقَالَ لَهُمْ: "أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ احْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ (مرقس 2: 25)

26. كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ، وَأَعْطَى الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضًا؟"3 (مرقس 2: 26)

27. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: "السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. (مرقس 2: 27)

28. إِذًا ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا." (مرقس 2: 28)






1. شفاء المفلوج: إعلان سلطان غفران الخطايا


يُعيدنا مرقس إلى كفرناحوم، التي باتت محط أنظار الجموع الباحثة عن الشفاء والتعليم. يعود يسوع إلى بيت كان يقطن فيه، وسرعان ما يتسرب الخبر، فيجتمع حوله حشد هائل لدرجة أن البيت، وحتى عتبة الباب، لم يعد يتسع للمزيد. كان يسوع، كعادته، يُلقي عليهم "الكلمة"، أي يُبشّرهم بملكوت الله. في خضم هذا الازدحام، يصل إليه أربعة رجال يحملون صديقًا لهم أصابه الشلل. إيمانهم العظيم وحرصهم على إيصال رفيقهم إلى المسيح دفعهما إلى عمل غير مسبوق: كشفوا سقف البيت، وبعد أن نقبوا فيه، دلَّوا الفراش الذي كان المفلوج مضطجعًا عليه مباشرة أمام يسوع. هذا التصرف يجسد قوة الإيمان الذي يتجاوز كل العقبات.



ولكن، ما فعله يسوع بعد ذلك كان مفاجئًا ومثيرًا للجدل. فعندما رأى إيمانهم، لم يشفِ المفلوج جسديًا على الفور، بل قال له: "يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ." هذا الإعلان لم يمر مرور الكرام على الكتبة الجالسين، وهم خبراء الشريعة اليهودية. في قلوبهم، اعتبروا هذا التصريح تجديفًا صريحًا. فقد أدركوا تمامًا أن سلطان غفران الخطايا هو امتياز خاص بالله وحده. وتساءلوا في أنفسهم: "لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هَذَا هَكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟" لقد وضع هذا التصريح يسوع في مواجهة مباشرة مع مفهومهم لله وسلطانه.



يسوع، كاشفًا لقلوبهم وأفكارهم، وجه لهم سؤالًا بلاغيًا يكشف عن جوهر القضية: "أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟" ثم أتبع سؤاله ببرهان لا يدع مجالًا للشك: "وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا – قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ." في تلك اللحظة، استجاب المفلوج فورًا، وقام وحمل سريره، وخرج أمام عيون الجميع المذهولة. لقد أثبت يسوع بهذه المعجزة المزدوجة – غفران الخطايا والشفاء الجسدي – أنه ليس مجرد معالج أو معلم، بل هو ابن الإنسان الذي يملك سلطانًا إلهيًا فريدًا. لقد قلب يسوع الموازين، وأظهر أن المشكلة الأعمق هي الخطيئة، وأن لديه الحل الشامل لها. هذا الحدث ترك الجميع في ذهول، "مَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا قَطُّ!"






2. دعوة لاوي والأكل مع الخطاة: كسر الحواجز الاجتماعية


بعد إعلانه الصادم عن سلطان غفران الخطايا، يواصل يسوع مسيرته في كسر الحواجز الاجتماعية والدينية المألوفة. يخرج مرة أخرى إلى شاطئ البحر، حيث يتجمع حوله كل الجموع ليعلمهم. وفي طريقه، يلمح لاوي بن حلفى، المعروف أيضًا بمتى في أناجيل أخرى، جالسًا في مكان الجباية. كان جباة الضرائب في المجتمع اليهودي منبوذين ومحتقرين، يُنظر إليهم كخونة يتعاملون مع السلطة الرومانية المحتلة ويشتهرون بالفساد والابتزاز. ومع ذلك، وبكل بساطة ودون تردد، وجه يسوع دعوته للاوي: "اتْبَعْنِي!" لم يتردد لاوي، فقام وتبع يسوع على الفور، تاركًا مهنة كانت توفر له الرزق ولكنها تلوث سمعته.



وما زاد من حنق الكتبة والفريسيين هو ما تلا ذلك. فبينما كان يسوع متكئًا لتناول الطعام في بيت لاوي (الذي أصبح بيته الآن)، كان معه كثيرون من العشّارين والخطاة يجلسون على المائدة. في الثقافة اليهودية، كان تناول الطعام المشترك إشارة إلى القبول والعلاقة الوثيقة، وهو ما كان يتعارض تمامًا مع فكرة الفصل عن "النجسين" التي يتبناها الفريسيون والكتبة بشدة. عندما رأى هؤلاء المراقبون الدينيون هذا المشهد، لم يجرؤوا على سؤال يسوع مباشرة، بل وجهوا سؤالهم إلى تلاميذه باستنكار واضح: "لِمَاذَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟"



يسوع، مدركًا لسؤالهم غير المباشر، أجابهم بإجابة خالدة تكشف عن قلب رسالته وجوهر ملكوت الله: "لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ." هذه الكلمات هي مفتاح لفهم غاية مجيء المسيح. لم يأتِ يسوع ليخدم من يعتبرون أنفسهم كاملي الفضيلة والأبرار، بل جاء ليمد يد العون والشفاء والرحمة لمن يدركون مرضهم الروحي وحاجتهم الماسة إلى الخلاص والغفران. لقد جاء ليخلص الضالين ويجلبهم إلى التوبة والحياة الجديدة. هذا الحدث يؤكد على رحمة يسوع العميقة، وقبوله لمن نبذهم المجتمع، وعلى دعوته الجوهرية للجميع - بغض النظر عن ماضيهم - إلى التوبة والدخول إلى ملكوت الله.






3. سؤال حول الصوم: العريس الجديد والعهد الجديد


تستمر التوترات الدينية بالظهور في حياة يسوع وخدمته. فبعد حادثة الأكل مع العشّارين والخطاة، يأتي سؤال آخر يمس صميم الممارسات الدينية المعتادة. كان تلاميذ يوحنا المعمدان والفريسيون يمارسون الصوم بانتظام، كجزء من تقواهم. فجاءوا إلى يسوع وسألوه باستغراب: "لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيُّونَ، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟" كان هذا السؤال يهدف إلى مقارنة ممارسات يسوع وتلاميذه بالممارسات التقليدية المعروفة، والتساؤل عن سبب اختلافهم.



أجابهم يسوع بمَثَلين عميقين، يبدآن بمَثَل العريس: "هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ4 حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ." في الثقافة اليهودية، كان حفل الزفاف فترة فرح واحتفال لا تليق بها ممارسات الحزن كالصوم. يسوع هنا يشير إلى نفسه بصفة "العريس"، وهو لقب يستخدم في العهد القديم ليشير إلى الله وعلاقته بشعبه (مثلاً، إشعياء 62: 5). مجيء يسوع هو بمثابة عرس روحي، فترة فرح وحضور إلهي. فكيف يمكن أن يصوم التلاميذ ويحزنون والعريس معهم؟ ولكن يسوع يشير أيضًا إلى المستقبل بعبارة "سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ"، وهي نبوءة واضحة عن موته وقيامته وصعوده، وبعدها سيكون هناك وقت للصوم. هذا المثل يعلن أن يسوع قد أتى بعهد جديد، وأن الفرح بحضوره يتجاوز التقاليد القديمة.




ثم أتبع يسوع بمَثَلين إضافيين لتوضيح عدم إمكانية "ترقيع" العهد القديم بممارسات العهد الجديد: "لاَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قُمَاشٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، وَإلاَّ فَالرُّقْعَةُ الْجَدِيدَةُ تَأْخُذُ مِنْ الْعَتِيقِ، فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. وَلاَ يَضَعُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ، وَإلاَّ فَالْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ تَشُقُّ الزِّقَاقَ فَتَتْلَفُ الْخَمْرُ وَالزِّقَاقُ. بَلْ يَضَعُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ." يشير القماش الجديد إلى التغيير الجذري الذي جاء به ملكوت الله من خلال يسوع، بينما الثوب العتيق يمثل النظام اليهودي القديم بتقاليده وممارساته. لا يمكن وضع التعليم الجديد والقوة الجديدة لملكوت الله في قوالب قديمة لم تعد تتناسب معها. الخمر الجديدة (تعليم يسوع وقوته) تحتاج إلى زقاق جديدة (قلوب وأذهان مفتوحة ومستعدة لقبول التغيير الجذري). يسوع هنا لا يلغي الشريعة، بل يؤكد أن زمنًا جديدًا قد بدأ، وأن ملكوت الله يتطلب فهمًا جديدًا وعلاقة جديدة مع الله، تتجاوز مجرد الالتزام الحرفي بالتقاليد.







4. حصاد السنابل في السبت: سلطان ابن الإنسان على السبت


تتواصل المواجهة بين يسوع والفريسيين، هذه المرة حول مفهوم السبت المقدس. بينما كان يسوع وتلاميذه يجتازون بين الزروع في يوم سبت، بدأ التلاميذ يقطفون السنابل ويأكلون منها. هذا الفعل، وإن كان يبدو بريئًا، اعتبره الفريسيون انتهاكًا لشريعة السبت، لأنه كان يُفسر على أنه عمل حصاد، وهو عمل محرم في السبت. فسألوا يسوع باستنكار: "انْظُرْ! لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟"




أجابهم يسوع بالرجوع إلى حادثة من العهد القديم تتعلق بداود النبي والملك، والتي كانت معروفة لديهم: "أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ احْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ5 رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ، وَأَعْطَى الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضًا؟"6 لقد كان خبز التقدمة خبزًا مقدسًا لا يحل لأحد أكله إلا للكهنة. لكن في حالة الجوع والحاجة القصوى لداود ورجاله، سمح لهم الله بأكله، مما يظهر أن الرحمة والحياة أهم من الحرفية المطلقة للشريعة.




ثم قدم يسوع مبدأه الجوهري بخصوص السبت: "السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ." هذا التصريح يقلب المفهوم الفريسي للسبت رأسًا على عقب. لقد حول الفريسيون السبت من يوم راحة وبركة للإنسان إلى عبء ثقيل مليء بالقيود التي تفقد روحه الأساسية. يسوع يعيد السبت إلى غايته الأصلية: فهو لخير الإنسان وراحته، وليس العكس. هذا يوضح أن التعاليم الإلهية ليست قيودًا بحد ذاتها، بل هي وسيلة لتحقيق خير الإنسان وازدهاره.



ثم يختتم يسوع هذا النقاش بإعلان قوي عن سلطانه: "إِذًا ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا." هذا الإعلان هو تتويج لسلطانه الذي بدأ الأصحاح بإظهاره. فهو ليس فقط له سلطان غفران الخطايا، بل هو أيضًا سيد السبت، أي يملك السلطان على تفسير الشريعة وتطبيقها بما يتوافق مع مشيئة الله الحقيقية التي تركز على الرحمة والخلاص. هذا يؤكد مكانته الإلهية كسلطة أعلى من الشريعة نفسها، لأنه هو الذي جاء ليتمم الشريعة ويجعلها حية في قلوب الناس.





خاتمة: الأصحاح الثاني: يسوع يكسر القوالب ويُعلن عهدًا جديدًا


الأصحاح الثاني من إنجيل مرقس يُظهر يسوع وهو يفتح باب عهد جديد، لا يعتمد على التقاليد الجامدة، بل على سلطان إلهي يحمل الرحمة والغفران. من غفرانه للمفلوج، إلى دعوته للاوي وجلوسه مع الخطاة، يؤكد يسوع أن ملكوته موجه للقلوب المحتاجة، لا للمكتفين بأنفسهم. بكسره مفاهيم الصوم وتأكيده أنه رب السبت، يعلن يسوع أن الزمان قد تغيّر، وأن الخمر الجديدة تحتاج إلى زقاق جديدة. هذا الأصحاح يدعونا إلى إعادة النظر في مفاهيمنا وتقاليدنا، ويحثنا على الانفتاح لعمل الله المتجدد. فهل نحن مستعدون لقبول يسوع العريس، والفرح الذي يجلبه، والملكوت الذي يكسر القوالب القديمة من أجل خلاص الإنسان؟

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url