تفسير إنجيل متى الإصحاح السادس الفصل 6
![]() |
تفسير إنجيل متى الإصحاح السادس الفصل 6 |
إنَّ الإصحاح السادس من إنجيل متى يُعدّ من أكثر الإصحاحات عُمقًا وغنى بالتعاليم الروحية التي ألقاها الرب يسوع المسيح في عظته على الجبل. يركّز هذا الإصحاح على الحياة الداخلية للإنسان وعلاقته بالله، بعيدًا عن الرياء والمظاهر. ويتناول موضوعات جوهرية مثل الصدقة، الصلاة، الصوم، الثقة بالله، وطلب ملكوت الله. في هذا المقال، سنقوم بتفسير هذا الإصحاح تفسيرًا واضحًا ومنظمًا يساعد القارئ المسيحي والباحث الروحي على فهم المعاني العميقة والمقاصد الإلهية من هذه التعاليم.
شاهد أيضا:
دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد
تفسير إنجيل متى الإصحاح السادس الفصل 6
1. احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. (متى 6:1)
التفسير: يحذر يسوع من القيام بالأعمال الخيرية أمام الناس بهدف نيل إعجابهم، مؤكدًا أن الأجر الحقيقي يأتي من الله الذي يرى الأعمال الخفية.
2. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً، فَلَا تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! (متى 6:2)
التفسير: ينتقد يسوع أولئك الذين يعلنون عن صدقاتهم لجذب انتباه الناس، مؤكدًا أن من يفعل ذلك قد نال مكافأته من الناس، وليس من الله.
3. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً، فَلَا تَعْرِفْ يَسَارُكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، (متى 6:3)
التفسير: يدعو يسوع إلى تقديم الصدقة بسرية تامة، بحيث لا يكون هناك تفاخر أو سعي للمدح، بل يكون الهدف هو رضا الله فقط.
4. لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ، فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. (متى 6:4)
التفسير: يؤكد يسوع أن الله يرى الأعمال الخفية ويكافئ عليها، مشجعًا على الإخلاص في الأعمال دون السعي للظهور أمام الناس.
5. وَمَتَى صَلَّيْتَ، فَلَا تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! (متى 6:5)
التفسير: ينبه يسوع إلى أن الصلاة ليست وسيلة للظهور أمام الناس، بل هي علاقة خاصة مع الله، ويجب أن تُؤدى بإخلاص بعيدًا عن الرياء.
6. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ، فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ، فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. (متى 6:6)
التفسير: يشجع يسوع على الصلاة في الخفاء، حيث تكون العلاقة بين الإنسان والله صادقة وخالية من التظاهر، والله يكافئ هذه العلاقة الصادقة.
7. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ، لَا تُكَرِّرُوا الْكَلَامَ بَاطِلًا كَالْأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِكَثْرَةِ كَلَامِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. (متى 6:7)
التفسير: يحذر يسوع من التكرار الفارغ في الصلاة، مشددًا على أن الله لا يحتاج إلى كثرة الكلام، بل إلى قلب صادق ومتواضع.
8. فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ، لِأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ. (متى 6:8)
التفسير: يؤكد يسوع أن الله يعلم احتياجاتنا قبل أن نطلبها، مما يدعو إلى الثقة بالله والابتعاد عن الأساليب الشكلية في الصلاة.
9. فَصَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. (متى 6:9)
التفسير: يبدأ يسوع بتعليم الصلاة النموذجية، مشيرًا إلى أهمية تمجيد اسم الله والاعتراف بقداسته في بداية الصلاة.
10. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ، كَمَا فِي السَّمَاءِ، كَذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ. (متى 6:10)
التفسير: يدعو يسوع إلى طلب تحقيق ملكوت الله ومشيئته على الأرض كما هي في السماء، مما يعكس رغبة المؤمن في تحقيق إرادة الله في حياته.
11. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. (متى 6:11)
التفسير: يشجع يسوع على طلب الاحتياجات اليومية من الله، معتمدين عليه في توفير ما نحتاجه للعيش.
12. وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. (متى 6:12)
التفسير: يربط يسوع بين غفران الله لنا وغفراننا للآخرين، مشددًا على أهمية التسامح في العلاقات الإنسانية.
13. وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. (متى 6:13)
التفسير: يحث يسوع على طلب الحماية من التجارب والشر، معتمدين على قوة الله في النجاة من الشرير.
14. فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. (متى 6:14)
التفسير: يؤكد يسوع أن غفراننا للآخرين هو شرط لنيل غفران الله، مما يعزز ثقافة التسامح والمحبة.
15. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، لَا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلَّاتِكُمْ. (متى 6:15)
التفسير: يحذر يسوع من عدم الغفران، مبينًا أن الامتناع عن مسامحة الآخرين يحرمنا من غفران الله.
16. وَمَتَى صُمْتُمْ، فَلَا تَكُونُوا عَبُوسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! (متى 6:16)
التفسير: ينتقد يسوع التظاهر بالصوم أمام الناس، مشددًا على أن الصوم يجب أن يكون بين الإنسان والله فقط.
17. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ، فَادْهَنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، (متى 6:17)
التفسير: ينصح يسوع بأن لا يُظهر الإنسان علامات الحزن أو الحرمان أثناء الصوم، بل يهتم بمظهره كالمعتاد، حتى لا يعرف الناس أنه صائم.
18. لِكَيْ لَا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ، فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. (متى 6:18)
التفسير: يشدد يسوع على أن الصوم يجب أن يكون بين الإنسان والله، والله الذي يرى الخفاء يكافئ علنًا.
19. لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الْأَرْضِ، حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ، (متى 6:19)
التفسير: يحذر يسوع من جمع المال والممتلكات الزائلة، لأنها قابلة للفساد والسرقة.
20. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلَا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لَا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، (متى 6:20)
التفسير: يدعو يسوع إلى السعي وراء الأمور السماوية والروحية، فهي الأبدية وغير قابلة للفقدان.
21. لِأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ، هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا. (متى 6:21)
التفسير: يربط يسوع بين ما يقدّره الإنسان وبين قلبه، فإذا كان كنزه أرضيًّا، فسيكون قلبه متعلّقًا بالأرض، وإذا كان سماويًّا فبقلبه لله.
22. سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً، فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، (متى 6:22)
التفسير: العين هنا ترمز إلى النظرة الداخلية، فإذا كانت نظرتك نقية وبسيطة، فإن حياتك كلها تكون مليئة بالنور.
23. وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً، فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا. فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً، فَالظُّلْمَةُ كَمْ تَكُونُ! (متى 6:23)
التفسير: إذا كانت نظرتك أنانية أو فاسدة، فإن حياتك ستكون مظلمة روحيًّا. وكلما ظن الإنسان أنه في نور وهو في الحقيقة في الظلمة، كانت حالته أسوأ.
24. لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الْآخَرَ، أَوْ يُلَازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الْآخَرَ. لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ. (متى 6:24)
التفسير: لا يمكن الجمع بين عبادة الله وعبادة المال، لأن كليهما يتطلب الولاء الكامل، والله يطلب القلب كله.
25. لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلَا لِجَسَدِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ (متى 6:25)
التفسير: يدعو يسوع إلى عدم القلق بشأن الاحتياجات اليومية، فالله الذي منح الحياة سيعتني بها.
26. انْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يُقِيتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ (متى 6:26)
التفسير: يدعو يسوع للتأمل في الطيور التي يعتني بها الله دون أن تعمل، ويؤكد أن البشر أعز وأغلى عند الله.
27. وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ (متى 6:27)
التفسير: القلق لا يُضيف شيئًا إلى حياتنا، بل يرهق النفس دون فائدة.
28. وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لَا تَتْعَبُ وَلَا تَغْزِلُ. (متى 6:28)
التفسير: يشير يسوع إلى جمال الزهور في الطبيعة التي لم تصنع شيئًا، ومع ذلك ألبسها الله جمالًا.
29. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلَا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. (متى 6:29)
التفسير: حتى أعظم ملوك بني إسرائيل، سليمان، لم يكن في بهائه يضاهي جمال زهرة مخلوقة من الله.
30. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ، الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ، وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هَكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ، يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ (متى 6:30)
التفسير: إن كان الله يعتني بالعشب المؤقت، فكم بالحري يعتني بأولاده المؤمنين!
31. فَلَا تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ (متى 6:31)
التفسير: يكرّر يسوع وصيته بعدم القلق حول الاحتياجات اليومية.
32. فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لِأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. (متى 6:32)
التفسير: الوثنيون هم من يقلقون بهذه الأمور، أما أولاد الله فليثقوا أن أباهم يعرف احتياجاتهم.
33. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. (متى 6:33)
التفسير: ضع الله أولًا في حياتك، وسيهتم هو بكل احتياجاتك الأخرى.
34. فَلَا تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لِأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ. (متى 6:34)
التفسير: عش يومك بثقة في الله، ولا تحمل هم الغد، فلكل يوم تحدياته والله يعتني بك.
الصدقة والنية الخفية (متى 6: 1-4)
"احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات" (متى 6: 1).
في هذا المقطع، يبدأ يسوع بتحذير واضح من الرياء. يؤكد أن الأعمال الخيّرة يجب أن تتم بدافع محبة الله لا من أجل مدح الناس. يُرينا الرب هنا أهمية النية في العمل، فالله يرى القلب ويكافئ السرائر. كلمة "أبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" تُلخص روح الإصحاح كله.
الصلاة الحقيقية والباطنية (متى 6: 5-8)
يُتابع يسوع تعليمه عن الصلاة فيقول: "وأما أنت فمتى صلّيت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء". في هذا التعليم، يرفض يسوع الشكلية في الصلاة، ويحثّ على العلاقة الشخصية الصادقة مع الله.
كما يُحذّر من كثرة الكلام كمن يظن أن الله يسمعه بطول حديثه. فالله لا يحتاج إلى شرح بل إلى قلوب منفتحة وإيمان حي.
الصلاة الربانية: نموذج الصلاة المسيحية (متى 6: 9-13)
في هذا المقطع، يعطينا الرب يسوع نموذجًا للصلاة يُعرف بـ"الصلاة الربانية":
"أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك...". تحتوي هذه الصلاة على عناصر الشكر، التمجيد، الطلب، والغفران. يبدأ يسوع بتمجيد اسم الله وطلب مجيء ملكوته، ثم ينتقل إلى طلب الاحتياجات اليومية والروحية.
وتُظهر الصلاة الربانية توازنًا بين مطالب الروح والجسد، وتحثّ المؤمن على المسامحة: "واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا".
الغفران شرط الغفران (متى 6: 14-15)
بعد تعليم الصلاة، يؤكد يسوع مبدأ أساسيًا: أن غفران الله مرتبط بغفراننا للآخرين. "إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي".
هذه القاعدة توضح أن العلاقة مع الله لا تنفصل عن العلاقة مع الآخرين. فالمحبة والمسامحة هما حجر الأساس في الحياة المسيحية.
الصوم في الخفاء (متى 6: 16-18)
في هذا الجزء، يُشير يسوع إلى أن الصوم، مثل الصلاة والصدقة، ينبغي أن يُمارَس في الخفاء. فالمؤمن لا يصوم ليُظهر تقواه، بل ليقترب من الله بتواضع.
"وأنت فمتى صمت، فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائمًا". الهدف من الصوم هو التوبة، لا الاستعراض.
كنزك الحقيقي في السماء (متى 6: 19-21)
يقول الرب: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض... بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء". يحثّ يسوع المؤمنين على عدم التعلّق بالماديات، بل التوجّه نحو القيم الأبدية.
"لأنه حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا". القلب مرتبط بما نهتمّ به، وهنا يذكّرنا يسوع أن أعظم استثمار هو في الملكوت.
العين كالسراج (متى 6: 22-23)
يتحدث يسوع عن العين كمنارة الجسد: "سراج الجسد هو العين". العين الطيبة تمثّل النية النقية، أما العين الشريرة فترمز إلى الحسد والطمع.
"إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا". هذا التعليم يُشدّد على نقاوة البصيرة الداخلية وتأثيرها على حياة الإنسان.
عبودية المال والله (متى 6: 24)
"لا يقدر أحد أن يخدم سيدين... لا تقدرون أن تخدموا الله والمال". هنا يشير يسوع إلى تعارض الولاء بين الله والمال.
المال ليس شرًا بحد ذاته، لكن التعلّق به كإله هو ما يحذر منه المسيح. الولاء لله يتطلب ترك كل ما يُزاحم المحبة الكاملة له.
لا تهتموا للغد: الثقة بالله (متى 6: 25-34)
يختم يسوع هذا الإصحاح بنداء رائع للثقة التامة في الله: "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون أو تشربون... أليست الحياة أفضل من الطعام؟".
يشير الرب إلى الطيور والزنابق كمثال على عناية الله. ويوصي بطلب ملكوت الله أولًا: "لكن اطلبوا أولًا ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تُزاد لكم".
ويختم بقوله: "لا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه"، في دعوة صريحة إلى التحرر من القلق والاعتماد الكلي على محبة الله.
في الختام، الإصحاح السادس من إنجيل متى هو دعوة مفتوحة للعيش مع الله بصدق وتواضع. يركّز الرب يسوع على القلب، لا على المظاهر، ويُعلن أن البر الحقيقي يبدأ من الداخل.
إنه تعليم ثوري يجعل من الإيمان علاقة شخصية بين الإنسان والله، علاقة تُبنى على الثقة، المحبة، الغفران، والتجرد من الماديات.
في عالم مليء بالضغوط والرياء، يأتي هذا الإصحاح كبلسم للنفس، يذكّرنا أن الله يرى، يسمع، ويكافئ في الخفاء.
فهل نعيش حياتنا كما علّمنا الرب في هذا الإصحاح؟ هل نطلب ملكوت الله أولًا؟ هل نغفر، نصلي، ونعطي بقلوب نقية؟ إنها دعوة لكل إنسان للسير في طريق النور.