تفسير إنجيل متى الإصحاح السابع الفصل 7

تفسير إنجيل متى الإصحاح 7 الفصل السابع
تفسير إنجيل متى الإصحاح السابع الفصل 7

يُعد الإصحاح السابع من إنجيل متى جزءًا من العظة على الجبل، التي تُعد من أعظم العظات التي ألقاها الرب يسوع المسيح، والتي تمتد من الإصحاح الخامس حتى السابع. وفي ختام هذه العظة، يجمع المسيح خلاصة تعاليمه من خلال مجموعة من المبادئ الحياتية التي تحمل قوة روحية وأخلاقية عظيمة، تهدف إلى تغيير الداخل لا المظهر الخارجي فقط. يواجه هذا الإصحاح الإنسان بما في قلبه، ويناشد ضميره وروحه وفكره، داعيًا إياه إلى التمييز بين الحق والباطل، وبين طريق الحياة وطريق الهلاك. وهو لا يكتفي بتوجيه النصح، بل يدعو إلى اتخاذ قرارات مصيرية مبنية على فهم عميق لمشيئة الله، وإيمان حي بالله الذي يرى ما في الخفاء ويجازي.




شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد






تفسير إنجيل متى الإصحاح السابع الفصل 7



1. لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا. (متى 7:1)

التفسير: يحذر يسوع من إصدار الأحكام على الآخرين، مشيرًا إلى أن من يدين غيره سيُدان بنفس المقياس.



2. لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. (متى 7:2)

التفسير: يشدد على أن الطريقة التي نحكم بها على الآخرين ستُستخدم ضدنا؛ فالمعاملة بالمثل هي مبدأ إلهي.



3. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تُفَكِّرُ فِيهَا؟ (متى 7:3)

التفسير: ينبه يسوع إلى النفاق في التركيز على أخطاء الآخرين بينما نتجاهل أخطاءنا الأكبر.



4. أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهُوَذَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ (متى 7:4)

التفسير: يُظهر التناقض في محاولة تصحيح أخطاء الآخرين دون معالجة أخطائنا الشخصية.



5. يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ. (متى 7:5)

التفسير: يدعو يسوع إلى تصحيح الذات أولاً قبل محاولة تصحيح الآخرين، مؤكدًا على أهمية التواضع.



6. لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَبِ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا، وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ. (متى 7:6)

التفسير: يحذر من تقديم الأمور المقدسة لمن لا يقدّرها، مشيرًا إلى ضرورة التمييز في مشاركة الحقائق الروحية.



7. اسْأَلُوا تُعْطَوْا، اطْلُبُوا تَجِدُوا، اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. (متى 7:7)

التفسير: يشجع يسوع على المثابرة في الصلاة والطلب، مؤكدًا على استجابة الله للذين يسعون إليه بإيمان.



8. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. (متى 7:8)

التفسير: يؤكد على وعد الله بالاستجابة لكل من يسعى إليه بإخلاص وثقة.



9. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ، إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزًا، يُعْطِيهِ حَجَرًا؟ (متى 7:9)

التفسير: يستخدم يسوع مثالاً بشريًا لتوضيح أن الله، كأب محب، يعطي أولاده ما هو صالح لهم.



10. وَإِذَا سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ (متى 7:10)

التفسير: يُبرز أن الله لا يعطي ما يضر أولاده، بل يمنحهم ما هو نافع ومفيد.



11. فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ، تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يُعْطِي خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! (متى 7:11)

التفسير: يشير إلى أن الله، الذي هو أبر وأرحم من البشر، سيمنح خيرات عظيمة للذين يطلبون منه.



12. فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمْ، افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ، لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ. (متى 7:12)

التفسير: يقدم يسوع قاعدة ذهبية للتعامل مع الآخرين، ملخصًا بذلك جوهر التعاليم الأخلاقية في الناموس والأنبياء.



13. اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ هُوَ الْبَابُ، وَرَحْبٌ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! (متى 7:13)

التفسير: يدعو يسوع إلى اختيار الطريق الضيق الذي يؤدي إلى الحياة، محذرًا من الطريق الواسع الذي يؤدي إلى الهلاك.



14. مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ! وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ. (متى 7:14)

التفسير: يشير إلى أن الطريق إلى الحياة الأبدية يتطلب جهدًا والتزامًا، وأن القليلين هم من يجدونه.



15. احْذَرُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ، الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْخِرَافِ، وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ. (متى 7:15)

التفسير: يحذر يسوع من المعلمين الكذبة الذين يبدون أبرياء من الخارج لكنهم يضمرون الشر.



16. مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ عِنَبٌ، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينٌ؟ (متى 7:16)

التفسير: يشير إلى أن الأفعال والنتائج تكشف عن حقيقة الأشخاص، كما تُعرف الأشجار من ثمارها.



17. هَكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ ثِمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ ثِمَارًا رَدِيَّةً. (متى 7:17)

التفسير: يؤكد أن الطبيعة الداخلية تظهر في الأفعال؛ فالشجرة الجيدة تنتج ثمارًا جيدة، والعكس صحيح.



18. لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ ثِمَارًا رَدِيَّةً، وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ ثِمَارًا جَيِّدَةً. (متى 7:18)

التفسير: يشير إلى أن السلوك يعكس الجوهر الداخلي؛ فالشخص الصالح ينتج أعمالًا صالحة، والعكس صحيح.



19. كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُطْرَحُ فِي النَّارِ. (متى 7:19)

التفسير: 
يؤكد يسوع أن من لا يثمر (أي لا يأتي بأعمال صالحة) سيُدان ويُرفض في النهاية.



20. فَإِذًا مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. (متى 7:20)

التفسير: 
مرة أخرى، يشدد يسوع أن الأفعال (الثمار) هي المقياس لمعرفة حقيقة الأشخاص.


21. لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. (متى 7:21)

التفسير: 
الاعتراف الشفوي لا يكفي، بل يجب طاعة مشيئة الله والعيش بحسب إرادته.



22. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ (متى 7:22)  

التفسير:
حتى الذين عملوا باسم الرب أعمالًا عظيمة لن يُقبلوا إن لم يكونوا طائعين لإرادة الله من الداخل.



23. فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اِذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ! (متى 7:23)

التفسير: 
رفض الرب لهؤلاء يظهر أن المعرفة الحقيقية بالله لا تُقاس بالأعمال الظاهرة فقط، بل بالنية والطاعة.



24. فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. (متى 7:24)

التفسير: 
من يطيع تعاليم المسيح يُشبه ببنّاء حكيم، أساسه ثابت وصلب على كلمة الله.



25. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. (متى 7:25)

التفسير: 
من يبني حياته على طاعة المسيح، سيثبت وقت التجربة، تمامًا كما ثبت البيت أمام العواصف.



26. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ أَحْمَقَ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. (متى 7:26)

التفسير: 
الذي يسمع تعاليم الرب ولا يطبقها يُعتبر جاهلًا، أساس حياته ضعيف كالرمل.



27. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ، فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا! (متى 7:27)

التفسير: 
الحياة المبنية دون طاعة كلمة الله تنهار وقت التجربة، ويكون سقوطها مدمّرًا.



28. فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ، بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، (متى 7:28)

التفسير: 
الناس دُهشوا من تعاليم يسوع لأنها كانت واضحة وقوية ومليئة بالسلطان الروحي.



29. لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ، لَيْسَ كَالكَتَبَةِ. (متى 7:29)

التفسير: 
يسوع لم يكن يعلّم كالمعلمين التقليديين، بل كمن يحمل سلطانًا إلهيًا حقيقيًا.



لا تدينوا لكي لا تُدانوا


يبدأ الإصحاح بتحذير حاسم ضد الإدانة، وهو أمر في غاية الأهمية، لأنه يتناول طبيعة العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، كما يكشف عن قلب الإنسان وموقفه من الآخرين. يقول المسيح: "لا تدينوا لكي لا تُدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم". 


هذا القول يسلط الضوء على ميل البشر إلى محاكمة بعضهم البعض، وكأنهم معصومون من الخطأ. لكن المسيح، بمعرفته الدقيقة بالنفس البشرية، يرفض هذا الموقف المتعالي، ويكشف عن التناقض بين سلوك من يدين غيره، وواقع نفسه الممتلئ بالعيوب. الإنسان بطبيعته سريع إلى النقد، بطيء إلى الرحمة، ولكنه غالبًا ما ينسى أنه بدينونته يُعرض نفسه لنفس المقياس الذي يستخدمه.


يتبع ذلك مَثَل شهير عن القذى والخشبة، حيث يقول المسيح: "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟". هذا التصوير القوي يكشف رياء النفس البشرية، التي تميل إلى تضخيم أخطاء الآخرين والتغاضي عن أخطائها الخاصة. 


في هذه الكلمات دعوة إلى التواضع الروحي، واعتراف بالحاجة الدائمة إلى رحمة الله وتوبته، بدلًا من إدانة الآخرين وانتقادهم من موضع تفوّق زائف. إن الغرض من هذه التعاليم ليس إلغاء التمييز بين الصواب والخطأ، بل الحث على فحص النفس أولًا، والاقتراب من الآخرين برحمة لا بحكم.





لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير


في هذه الآية التي قد تبدو قاسية للوهلة الأولى، يقدّم الرب يسوع مبدأ آخر من مبادئ الحكمة الروحية، حيث يقول: "لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم". يُشير النص إلى عدم تقديم الأمور المقدسة للذين لا يقدّرونها ولا يسعون لفهمها. فهناك نفوس مغلقة تمامًا على النعمة، ترفض الحق وتحتقره، بل وتهاجم من يقدمه.



ليست هذه الآية دعوة للازدراء، بل للتمييز. إن المسيح يعلّمنا أن نتحلى بحكمة روحية، وأن نُدرك متى نُقدّم الكلمة ومتى نتحفظ. فهناك أوقات لا تكون فيها مشاركة الحق مناسبة، لأن الشخص المتلقي لا يريد أن يسمع، بل يسخر ويقاوم ويفسد. حينئذٍ، يصبح تقديم الإنجيل له كمَن يُلقي اللآلئ أمام الخنازير. إن معرفة الزمان المناسب، والحالة الروحية للآخر، جزء من الأمانة في حمل كلمة الله.






اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم


يعود يسوع المسيح إلى الحديث عن العلاقة بين الإنسان والله، فيرفع أنظارنا من الأرض إلى السماء، ويدعونا إلى الثقة في صلاح الآب السماوي. إن دعوة المسيح للصلاة ليست مجرد طلب أو توجيه روحي، بل هي تأكيد أن الله يستجيب ويعطي ويمنح بسخاء. فحين يقول: "كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له"، فهو لا يعِد فقط بالعطية، بل يرسم صورة حية لأبٍ محب لا يبخل على أولاده بشيء صالح.



ثم يضرب مثلاً بشريًا بسيطًا: "أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا؟ أو إذا سأله سمكة يعطيه حية؟". هذا التشبيه يسلط الضوء على الفارق الشاسع بين صلاح الله وصلاح الإنسان. فإذا كان الإنسان الضعيف، الشرير بطبيعته، يعرف أن يعطي عطايا جيدة لأولاده، فكم بالأولى الآب السماوي الذي يفوق في محبته ورحمة قلبه جميع البشر؟



لكن هذا المقطع لا يُفهم إلا في ضوء سياق الثقة والطاعة. فالسائل هو من يؤمن، والطالب هو من يسير بحسب إرادة الله، والطارق هو من لا ييأس ولا يملّ، بل يستمر في الإلحاح بثقة كاملة. هذه ليست وعودًا فارغة، بل هي دعوة للحياة في علاقة حقيقية مع الله، يحكمها الإيمان، ويغذيها الرجاء، ويُظهِرها الاتكال الدائم على قدرة الآب ومحبته.





كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا


يعرف هذا القول باسم "القاعدة الذهبية"، وهو من أسمى التعاليم الأخلاقية التي نطق بها الرب يسوع. يقول النص: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء". بهذا الإعلان، يُلخص المسيح جوهر الناموس كله: المحبة العملية المتبادلة. ليست المحبة شعورًا مجردًا، بل هي فعل وتضحية وتقدير للآخر.



في عالم يسوده الظلم والأنانية والمصلحة، يأتي هذا التعليم ليقلب المقاييس، داعيًا الإنسان إلى أن يكون هو المبادر، لا المنتظر. أن يُقدم للآخر ما يحب أن يتلقاه، أن يتصرف بنزاهة، وصدق، ورحمة، بغض النظر عن رد الفعل. هذا النوع من الأخلاق يتطلب قلبًا مجددًا، وروحًا خاضعة، وإيمانًا حقيقيًا بقوة المحبة الإلهية، التي لا تطلب ما لنفسها.




ادخلوا من الباب الضيق


الرب يسوع لا يُخفي صعوبة الطريق، بل يعلنها بوضوح: "ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع هو الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه". في هذا النص يُقدَّم طريقان: طريق الهلاك، وطريق الحياة. الأول سهل ومريح لكنه يقود إلى نهاية مُرّة. الثاني ضيق وشاق، لكنه يؤدي إلى الحياة الأبدية.



الاختيار هنا ليس ترفًا، بل قرار مصيري. الباب الضيق هو رمز للطريق المملوء بالطاعة، ونكران الذات، واحتمال الضيق، والثبات على المبادئ الإلهية. ليس من السهل السير فيه، لكنه الطريق الذي سار فيه المسيح، ودعانا لنسير خلفه. أما الباب الواسع، فهو صورة للانجراف مع التيار، والتخلي عن المبادئ، والعيش بلا ضابط روحي. والخطير في الأمر أن هذا الطريق يبدو مريحًا ومغريًا، لكنه يقود إلى الهلاك.





احذروا الأنبياء الكذبة


يحذر الرب يسوع من خطر آخر يهدد الكنيسة والنفوس، وهو خطر الأنبياء الكذبة الذين يأتون بثياب الحملان ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة. هذا التحذير لا يقل أهمية عن غيره، لأنه يشير إلى وجود قوى مضللة في داخل المجتمع الديني نفسه. ليس كل من يتكلم باسم الرب يتكلم بإلهام الروح القدس، وهناك من يستخدم الدين لأغراض شخصية أو لإفساد النفوس.



يعلّمنا المسيح أن التمييز لا يكون بالمظهر الخارجي، بل بالثمار: "من ثمارهم تعرفونهم". الكلمة أو التعليم مهما بدا براقًا، يجب اختباره وفقًا للحق الكتابي، ويجب النظر إلى حياة المُعلّم، وأثره على من حوله. التعليم الحقيقي يُنتج محبة وقداسة، أما التعليم المزيف فيؤدي إلى انقسام، وتشويش، وإثم. لذلك يدعونا المسيح إلى الحذر والسهر، لأن العدو كثيرًا ما يتخفى في صورة ملاك نور.





ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات


تأتي هذه الكلمات كتحذير صارم ومزلزل لكل من يظن أن الإيمان اللفظي كافٍ للخلاص. يقول الرب: "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات". إن الدين ليس مجرد طقوس وكلمات، بل حياة مطيعة للمشيئة الإلهية. كثيرون يظنون أن مجرد الانتماء الشكلي للمسيحية يكفي، ولكن المسيح يكشف الزيف، ويطالب بثمار حقيقية.



المسيح لا يرفض من يدعوه، بل يرفض الرياء، والكلام الخالي من العمل. في يوم الدينونة، سيقف كثيرون ويقولون: "أليس باسمك تنبأنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟"، لكنه يجيبهم: "اذهبوا عني يا فاعلي الإثم، إني لم أعرفكم قط". هذه الكلمات لا تهدف إلى التخويف، بل إلى حث النفس على التوبة الحقيقية، والرجوع إلى الله بقلب صادق وأعمال ظاهرة.




البيت المبني على الصخر


يختم المسيح عظته بمَثَل واضح حول من يسمع كلماته ويعمل بها، ومن يسمعها ولا يطبقها. يشبّه الأول برجل عاقل بنى بيته على الصخر، فمهما عصفت به الرياح وهاجت الأمطار، لم يسقط. أما الثاني، فهو جاهل بنى بيته على الرمل، فسقط وكان سقوطه عظيمًا.



الصخر هنا هو المسيح نفسه، وكلماته هي الأساس الثابت. من يبني حياته على المسيح، بالإيمان والطاعة، يكون ثابتًا في مواجهة التجارب والضيقات. أما من يسمع ولا يعمل، فهو يعرّض حياته للانهيار الروحي. التعليم واضح: ليست المعرفة كافية، بل المطلوب حياة متجذّرة في الحق، مبنية على الصخرة الأزلية.






في الختام، إن تفسير إنجيل متى الإصحاح السابع يكشف لنا عن عمق الدعوة التي يوجهها المسيح إلى كل نفس بشرية. دعوة للتمييز، للتواضع، للثقة بالله، وللطاعة العملية. هذا الإصحاح لا يُقرأ كمجموعة من النصوص المعزولة، بل كدعوة شاملة لحياة كاملة مُكرسة لله. هو دعوة للخروج من التصنّع إلى الإيمان الحقيقي، ومن الرياء إلى المحبة، ومن السطحية إلى الجذور الروحية العميقة. من يفهم هذه التعاليم ويعيشها، يجد الطريق إلى الحياة الأبدية، ويُبني بيته على صخر لا يتزعزع.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url