تفسير إنجيل متى الأصحاح العشرون الفصل 20

شرح وتفسير إنجيل متى الأصحاح 20 - عمال الكرم والقيادة الخادمة
تفسير إنجيل متى الأصحاح العشرون الفصل 20


يقلب الأصحاح العشرون موازين المنطق البشري تماماً. ففي مملكة الله، الحسابات تختلف عن سوق العمل الأرضي؛ حيث يحصل المتأخرون على نفس أجر الأولين، وتصبح العظمة مرتبطة بالخدمة لا بالسلطة. يفتتح يسوع الأصحاح بمثل 'عملة الكرم' الصادم الذي يكشف عن سخاء الله الذي يتجاوز العدالة البشرية الضيقة. ثم يواجه طموحات تلاميذه الدنيوية حول المناصب، ليعلن الدستور الذهبي للقيادة المسيحية: 'من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن خادماً'. وينتهي الأصحاح بصرخة أعميين تفتح أعيننا على حقيقة أن البصيرة الروحية أهم من البصر الجسدي.




شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد





تفسير إنجيل متى الأصحاح 20: عدالة النعمة ومفهوم القيادة الخادمة


العدد الآية
1 «لأَنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ لِيَسْتَأْجِرَ عُمَّالاً لِلْعَمَلِ فِي كَرْمِهِ.
2 فَاتَّفَقَ مَعَ الْعُمَّالِ عَلَى دِينَارٍ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ (أُجْرَةُ يَوْمِ عَمَلٍ كَامِلٍ)، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ.
3 ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَبَاحًا (السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ)، فَرَأَى آخَرِينَ وَاقِفِينَ فِي السَّاحَةِ بِلاَ عَمَلٍ.
4 فَقَالَ لَهُمْ: ’اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى كَرْمِي، وَسَأُعْطِيكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ بِالْعَدْلِ‘. فَذَهَبُوا.
5 وَخَرَجَ أَيْضًا عِنْدَ الظُّهْرِ (السَّاعَةِ السَّادِسَةِ) وَعِنْدَ الْعَصْرِ (السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ) وَفَعَلَ نَفْسَ الشَّيْءِ.
6 وَفِي السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (قَبْلَ الْغُرُوبِ بِسَاعَةٍ)، خَرَجَ فَوَجَدَ آخَرِينَ وَاقِفِينَ، فَسَأَلَهُمْ: ’لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هُنَا طُوَالَ الْيَوْمِ بِطَّالِينَ؟‘.
7 قَالُوا لَهُ: ’لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ‘. فَقَالَ لَهُمْ: ’اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ‘.
8 وَلَمَّا حَلَّ الْمَسَاءُ، قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ’ادْعُ الْعُمَّالَ وَاصْرِفْ لَهُمُ الأُجْرَةَ، مُبْتَدِئًا مِنَ الآخِرِينَ وُصُولاً إِلَى الأَوَّلِينَ‘.
9 فَجَاءَ الَّذِينَ عَمِلُوا مُنْذُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا كَامِلاً.
10 فَلَمَّا جَاءَ الأَوَّلُونَ، ظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيَأْخُذُونَ أَكْثَرَ، لَكِنَّهُمْ أَخَذُوا هُمْ أَيْضًا كُلُّ وَاحِدٍ دِينَارًا.
11 وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَهُ، بَدَأُوا يَتَذَمَّرُونَ عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ
12 قَائِلِينَ: ’هَؤُلاَءِ الآخِرُونَ لَمْ يَعْمَلُوا سِوَى سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ تَحَمَّلْنَا عِبْءَ النَّهَارِ وَحَرَّهُ!‘.
13 فَأَجَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ قَائِلاً: ’يَا صَاحِبِي، أَنَا لَمْ أَظْلِمْكَ. أَلَمْ تَتَّفِقْ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟
14 خُذْ مَا لَكَ وَانْصَرِفْ. فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الأَخِيرَ مِثْلَكَ تَمَامًا.
15 أَوَ لَيْسَ لِي الْحَقُّ فِي أَنْ أَفْعَلَ بِمَا لِي مَا أُرِيدُ؟ أَمْ أَنَّ عَيْنَكَ شِرِّيرَةٌ حَاسِدَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ وَكَرِيمٌ؟‘.
16 هَكَذَا يَصِيرُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لأَنَّ الْمَدْعُوِّينَ كَثِيرُونَ وَلَكِنَّ الْمُخْتَارِينَ قَلِيلُونَ».
17 وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِدًا إِلَى أُورُشَلِيمَ، انْفَرَدَ بِالتَّلاَمِيذِ الاثْنَيْ عَشَرَ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ:
18 «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ تَسْلِيمُ ابْنِ الإِنْسَانِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ.
19 وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ (الرُّومَانِ) لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَيَقُومُ».
20 حِينَهَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ أُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي (يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا) مَعَ ابْنَيْهَا، وَسَجَدَتْ لَهُ طَالِبَةً مِنْهُ شَيْئًا.
21 فَقَالَ لَهَا: «مَاذَا تُرِيدِينَ؟» قَالَتْ لَهُ: «قُلْ كَلِمَةً لِيَجْلِسَ ابْنَايَ هَذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَلَكُوتِكَ».
22 فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتُمَا لاَ تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ (كَأْسَ الآلاَمِ) الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تِصْطَبِغَا بِالصبغة الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا؟» قَالاَ لَهُ بِثِقَةٍ: «نَسْتَطِيعُ».
23 فَقَالَ لَهُمَا: «أَمَّا كَأْسِي فَسَوْفَ تَشْرَبَانِهَا، وَبِالصبغة الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا سَتَصْطَبِغَانِ. وَلَكِنَّ الْجُلُوسَ عَنْ يَمِينِي وَيَسَارِي لَيْسَ لِي أَنْ أَمْنَحَهُ بِمُجَرَّدِ طَلَبٍ، بَلْ هُوَ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَبِي».
24 فَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ الْعَشَرَةُ الْآخَرُونَ بِذَلِكَ، اغْتَاظُوا جِدًّا مِنَ الأَخَوَيْنِ.
25 فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ جَمِيعًا وَقَالَ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ بِالْقُوَّةِ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ.
26 فَلاَ يَكُنْ هَكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا.
27 وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمُ الأَوَّلَ، فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا.
28 تَمَامًا كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ مِنْ أَحَدٍ، بَلْ لِيَخْدِمَ هُوَ، وَلِيَبْذُلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ».
29 وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ مِنْ أَرِيحَا، تَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ.
30 وَإِذَا بِأَعْمَيَيْنِ جَالِسَيْنِ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا سَمِعَا أَنَّ يَسُوعَ مَارٌّ، صَرَخَا بِأَعْلَى صَوْتِهِمَا: «ارْحَمْنَا يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ!».
31 فَانْتَهَرَهُمَا الْجَمْعُ لِيَسْكُتَا، لَكِنَّهُمَا ازْدَادَا صُرَاخًا وَإِلْحَاحًا: «ارْحَمْنَا يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ!».
32 فَتَوَقَّفَ يَسُوعُ وَنَادَاهُمَا وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمَا؟».
33 قَالاَ لَهُ: «يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا».
34 فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ عَلَيْهِمَا وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا، وَفِي الْحَالِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا، فَتَبِعَاهُ.


عدالة النعمة: الله ليس محاسباً

يضرب يسوع مثلاً يهز أركان المنطق التجاري البشري. في سوق العالم، الأجر يساوي العمل. لكن في ملكوت الله، الأجر يعتمد على جود صاحب العمل لا على استحقاق العامل. عمال الساعة الحادية عشرة (الذين جاءوا في آخر لحظة) لم يحصلوا على الدينار لأنهم عملوا بجد، بل لأن صاحب الكرم صالح.

تذمر العمال الأولين يكشف الطبيعة البشرية التي تحسد الآخرين على النعمة. هم لم يُظلموا (نالوا ما اتفقوا عليه)، لكن "عينهم شريرة" لأن الله صالح. هذا المثل هو أعظم تعزية لكل من تأخر في التوبة أو الخدمة؛ فباب النعمة مفتوح، والله يكافئ الرغبة الصادقة كما يكافئ العمل الطويل. النعمة لا تُلغي العدل، بل تتسامى عليه.

الكأس قبل العرش: ثمن المجد

بينما كان يسوع يتحدث عن صليبه وموته، كانت أم يعقوب ويوحنا تفكر في العروش والمناصب! هذا التناقض الصارخ يوضح كم كان التلاميذ بعيدين عن فهم طبيعة الملكوت. طلبهم للجلوس عن اليمين واليسار يعكس رغبة في المجد بدون ألم.

رد يسوع كان دعوة للواقعية: "أتستطيعان أن تشربا الكأس؟". الكأس هي الآلام والاضطهاد. المجد في المسيحية ليس منحة مجانية للمقربين، بل هو نتيجة شركة الآلام مع المسيح. الله قد أعد الأماكن، لكن الطريق إليها يمر حتماً عبر الجلجثة.

الهرم المقلوب: القيادة الخادمة

غضب التلاميذ العشرة لم يكن غيرة مقدسة، بل غيرة تنافسية لأن الأخوين سبقوهم في الطلب. هنا ينسف يسوع مفهوم السلطة العالمي. في العالم: العظيم هو من يخدمه الكثيرون. في المسيحية: العظيم هو من يخدم الكثيرين.

يسوع لا يلغي الطموح للعظمة، بل يغير تعريفها. "عبد للجميع" ليس مجرد شعار، بل هو تجسيد لحياة المسيح نفسه الذي جاء "ليبذل نفسه فدية". القيادة المسيحية ليست تسلطاً بل تضحية، وليست امتيازاً بل مسؤولية بذل الذات من أجل الآخرين.

بصيرة الإيمان: الصرخة التي أوقفت المسيح

يختتم الأصحاح بمشهد شفاء الأعميين. رغم ضجيج الجموع ومحاولات إسكاتهم، إلا أن صرخة الحاجة والإيمان "يا ابن داود" وصلت لقلب يسوع. توقف سيد الكون لأجل شخصين مهمشين.

سؤاله "ماذا تريدان؟" ليس جهلاً باحتياجهم، بل احتراماً لإرادتهم وتحديداً لطلبهم. شفاؤهم لم يكن مجرد استعادة للبصر الجسدي، بل تبعه "اتباع" ليسوع. البصيرة الحقيقية هي التي تقودنا لاتباع المسيح في الطريق، وليس مجرد النفعية للحصول على معجزة.

خلاصة الأصحاح العشرين

• سخاء الله: لا تحسد الآخرين على نعمة الله لهم، ولا تيأس إذا جئت متأخراً؛ فصاحب الكرم يعطي بسخاء يفوق العدل.
• التركيز على الصليب: لا تنشغل بالأمجاد والمناصب الأرضية بينما يدعوك المسيح لشركة آلامه وحمل الصليب.
• الخدمة هي العظمة: إذا أردت أن تكون كبيراً في عين الله، تعلم أن تنحني لتغسل أرجل الآخرين وتخدمهم بحب.
• الإلحاح في الصلاة: لا تدع أصوات العالم أو الناس تسكت صرختك للمسيح؛ اصرخ بصوت عالٍ "ارحمني"، وهو سيتوقف لأجلك.
• الاتباع: الغاية من كل عطايا الله ومعجزاته هي أن نتبعه في الطريق، لا أن نأخذ العطية وننصرف.

مقالات ذات صلة

المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url