تفسير إنجيل متى الأصحاح التاسع عشر الفصل 19

دراسة وشرح إنجيل متى الأصحاح 19 - الزواج والمال في الكتاب المقدس
تفسير إنجيل متى الأصحاح التاسع عشر الفصل 19


في الأصحاح التاسع عشر، يغادر يسوع الجليل متجهاً نحو اليهودية، وهي رحلة ستقوده في النهاية إلى الصليب. هذا الأصحاح هو أصحاح «الخيارات الصعبة»؛ حيث يواجهنا يسوع بتحديات جذرية تمس صميم حياتنا الاجتماعية والمادية. يبدأ بإعادة تعريف الزواج لا كعقد بشري بل كرباط إلهي مقدس، ثم يدافع عن مكانة الأطفال في الملكوت، ويصل إلى ذروة التحدي مع الشاب الغني، كاشفاً أن الأخلاق وحدها لا تكفي للخلاص إذا كان القلب متعلقاً بالمال. إنه أصحاح يدعونا لترك كل شيء -سواء كان مفاهيم مغلوطة أو ممتلكات- لاتباع المسيح.




شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد





تفسير إنجيل متى الأصحاح 19: قدسية العهد وعائق المال


العدد الآية
1 وَبَعْدَمَا أَنْهَى يَسُوعُ هَذِهِ التَّعَالِيمَ الْجَوْهَرِيَّةَ، غَادَرَ مَنْطِقَةَ الْجَلِيلِ وَاتَّجَهَ جَنُوبًا إِلَى نَوَاحِي الْيَهُودِيَّةِ عَبْرَ الضَّفَّةِ الشَّرْقِيَّةِ لِنَهْرِ الأُرْدُنِّ.
2 فَتَبِعَتْهُ حُشُودٌ غَفِيرَةٌ مِنْ كُلِّ حَدْبٍ وَصَوْبٍ، وَهُنَاكَ مَارَسَ سُلْطَانَهُ فَشَفَاهُمْ مِنْ أَمْرَاضِهِمْ.
3 وَكَعَادَتِهِمْ، جَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيَنْصِبُوا لَهُ فَخًّا، فَسَأَلُوهُ عَنْ قَضِيَّةٍ شَائِكَةٍ: «هَلْ يَحِقُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ لأَيِّ سَبَبٍ كَانَ؟».
4 فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ مُعِيدًا إِيَّاهُمْ إِلَى الأَصْلِ: «أَمَا قَرَأْتُمْ فِي كُتُبِكُمْ أَنَّ الْخَالِقَ مُنْذُ الْبَدْءِ صَنَعَ الْبَشَرَ ذَكَرًا وَأُنْثَى؟
5 وَقَالَ لِهَذَا السَّبَبِ يَنْفَصِلُ الرَّجُلُ عَنْ بَيْتِ وَالِدَيْهِ وَيَلْتَصِقُ بِزَوْجَتِهِ، فَيَلْتَحِمُ الاثْنَانِ لِيُصْبِحَا جَسَدًا وَاحِدًا.
6 إِذَنْ، هُمَا لَمْ يَعُودَا اثْنَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ، بَلْ كِيَانٌ وَاحِدٌ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، مَا رَبَطَهُ اللهُ بِعَهْدٍ مُقَدَّسٍ، لاَ يَحِقُّ لإِنْسَانٍ أَنْ يَفْصِلَهُ».
7 فَاعْتَرَضُوا قَائِلِينَ: «إِذَا كَانَ الأَمْرُ هَكَذَا، فَلِمَاذَا أَمَرَ مُوسَى بِإِعْطَاءِ وَثِيقَةِ طَلاَقٍ عِنْدَ الانْفِصَالِ؟».
8 أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ مُوسَى سَمَحَ لَكُمْ بِالْطَلاَقِ لَيْسَ كَأَصْلٍ، بَلْ كَتَنَازُلٍ اضْطِرَارِيٍّ بِسَبَبِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ وَتَحَجُّرِهَا؛ وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدَ اللهِ مُنْذُ الْبَدْءِ.
9 وَأَنَا أُعْلِنُ لَكُمُ الْقَانُونَ الْجَدِيدَ: مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ إِلاَّ فِي حَالَةِ الْخِيَانَةِ الزَّوْجِيَّةِ (الزِّنَى) وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى، فَقَدْ ارْتَكَبَ زِنًى؛ وَمَنْ تَزَوَّجَ بِمُطَلَّقَةٍ فَهُوَ أَيْضًا يَزْنِي».
10 عِنْدَهَا قَالَ لَهُ التَّلاَمِيذُ بِدَهْشَةٍ: «إِنْ كَانَتْ الْتِزَامَاتُ الزَّوَاجِ صَارِمَةً إِلَى هَذَا الْحَدِّ، فَالأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَلاَّ يَتَزَوَّجَ إِطْلاَقًا!».
11 فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ الْجَمِيعُ قَادِرِينَ عَلَى قَبُولِ هَذَا الْكَلاَمِ (الْعُزُوبِيَّةِ)، إِلاَّ الَّذِينَ وُهِبَ لَهُمْ ذَلِكَ خِصِّيصًا.
12 فَهُنَاكَ مَنْ وُلِدُوا غَيْرَ مُؤَهَّلِينَ لِلزَّوَاجِ، وَهُنَاكَ مَنْ جَعَلَهُمُ النَّاسُ هَكَذَا، وَهُنَاكَ مَنِ اخْتَارُوا عَدَمَ الزَّوَاجِ طَوْعًا مِنْ أَجْلِ التَّفَرُّغِ لِخِدْمَةِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ هَذَا، فَلْيَقْبَلْهُ».
13 ثُمَّ قَدَّمَ إِلَيْهِ النَّاسُ أَطْفَالاً صِغَارًا لِكَيْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ وَيُصَلِّيَ، لَكِنَّ التَّلاَمِيذَ نَهَرُوهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُزْعِجُونَ الْمُعَلِّمَ.
14 فَقَالَ يَسُوعُ: «دَعُوا الأَطْفَالَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ الْبُسَطَاءِ يَنْتَمِي مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ».
15 وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ مُبَارِكًا، ثُمَّ تَابَعَ رِحْلَتَهُ.
16 وَإِذَا بِشَابٍّ يَقْتَرِبُ مِنْهُ وَيَسْأَلُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَا هُوَ الْعَمَلُ الْخَيْرُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ أَفْعَلَهُ لِأَضْمَنَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟».
17 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَسْأَلُنِي عَنِ الصَّلاَحِ؟ لاَ يُوجَدُ صَالِحٌ مُطْلَقٌ إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. وَلَكِنْ إِنْ أَرَدْتَ دُخُولَ الْحَيَاةِ، فَاحْفَظِ الْوَصَايَا».
18 سَأَلَهُ الشَّابُ: «أَيَّةُ وَصَايَا تَقْصِدُ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لاَ تَقْتُلْ، لاَ تَزْنِ، لاَ تَسْرِقْ، لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ،
19 أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَمَا تُحِبُّ نَفْسَكَ».
20 فَقَالَ لَهُ الشَّابُ بِثِقَةٍ: «كُلُّ هَذِهِ حَافَظْتُ عَلَيْهَا مُنْذُ طُفُولَتِي، فَمَاذَا يَنْقُصُنِي بَعْدُ؟».
21 أَجَابَهُ يَسُوعُ كَاشِفًا عُمْقَ قَلْبِهِ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً، فَاذْهَبْ وَبِعْ مُمْتَلَكَاتِكَ وَوَزِّعْ ثَمَنَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ رَصِيدٌ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تَعَالَ وَاتْبَعْنِي».
22 فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُ هَذَا الشَّرْطَ، انْصَرَفَ حَزِينًا جِدًّا، لأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ ثَرْوَةً طَائِلَةً لَمْ يَسْتَطِعِ التَّخَلِّيَ عَنْهَا.
23 فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ مِنْ الصَّعْبِ جِدًّا عَلَى الْغَنِيِّ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.
24 وَأُكَرِّرُ لَكُمْ: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ ضَخْمٍ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ صَغِيرَةٍ أَسْهَلُ مِنْ دُخُولِ غَنِيٍّ مُتَمَسِّكٍ بِثَرْوَتِهِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ».
25 فَذُهِلَ التَّلاَمِيذُ جِدًّا وَتَسَاءَلُوا: «إِذَنْ، مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُصَ؟».
26 فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «هَذَا مُسْتَحِيلٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَبِقُدُرَاتِهِمْ، وَلَكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُمْكِنٌ».
27 حِينَهَا قَالَ بُطْرُسُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ، فَمَاذَا سَيَكُونُ نَصِيبُنَا؟».
28 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: فِي زَمَنِ التَّجْدِيدِ، عِنْدَمَا يَجْلِسُ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى عَرْشِ مَجْدِهِ، سَتَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا، الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ عَرْشًا لِتَدِينُوا أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ.
29 وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ زَوْجَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، سَيَنَالُ مِئَةَ ضِعْفٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ.
30 وَلَكِنْ كَثِيرُونَ مِنَ الأَوَّلِينَ (فِي نَظَرِ النَّاسِ) سَيَصِيرُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ (الْمُتَوَاضِعُونَ) سَيَصِيرُونَ أَوَّلِينَ».


الزواج: استعادة التصميم الأصلي

سؤال الفريسيين كان فخاً قانونياً، لكن يسوع رفعه إلى مستوى لاهوتي. لم يدخل في جدال حول أسباب الطلاق (مدرسة هليل ومدرسة شمعي)، بل عاد بهم إلى "البدء"، إلى نية الخالق قبل سقوط الإنسان. الزواج ليس مجرد عقد اجتماعي قابل للفسخ، بل هو "سر" اتحاد روحي وجسدي يجريه الله نفسه (ما جمعه الله).

توضيح يسوع بأن شريعة موسى كانت "تنازلاً" بسبب قساوة القلوب يكشف أن الشريعة المدنية قد تنظم الشر لكنها لا تعبر بالضرورة عن مشيئة الله الكاملة. المعيار المسيحي للزواج هو الديمومة والوحدة، والطلاق هو جرح في جسد واحد لا يُسمح به إلا لعلة الزنى التي تكسر هذا الاتحاد فعلياً.

الأطفال: مواطنو الملكوت المثاليون

بينما كان التلاميذ يعتبرون الأطفال مصدر إزعاج أو أقل شأناً، أعلن يسوع أنهم "أصحاب الملكوت". ليس بسبب براءتهم الأخلاقية (فالطفل يولد بطبيعة بشرية)، بل بسبب وضعهم المتمثل في الاعتماد الكلي على الغير، والثقة، وعدم الادعاء. يسوع يبارك الأطفال ليؤكد أن الملكوت يُقبل كهبة، ولا يُنال بالإنجازات أو المكانة الاجتماعية.

الشاب الغني: عندما يكون «الكل» غير كافٍ

هذا الشاب كان يملك كل شيء: المال، الشباب، المنصب، والأخلاق (حفظ الوصايا). لكنه كان يشعر بنقص داخلي عميق (ماذا ينقصني؟). يسوع، الطبيب الماهر، وضع يده مباشرة على الورم السرطاني في حياته: محبة المال.

الطلب ببيع كل شيء لم يكن تشريعاً عاماً لكل مسيحي، بل وصفة خاصة لهذا الشاب لأن ماله كان إلهه الحقيقي. حزنه كشف الحقيقة: هو يحب ممتلكاته أكثر من الله. درس «خرم الإبرة» يؤكد استحالة الخلاص بالجهد البشري أو شراء السماء بالمال؛ الخلاص معجزة إلهية (عند الله كل شيء مستطاع) تحول القلب من حب الدنيا إلى حب الخالق.

المكافأة: استثمار التضحية

سؤال بطرس (ماذا يكون لنا؟) يبدو نفعياً، لكن يسوع لا يوبخه، بل يقدم وعداً سخياً. من يترك شيئاً لأجل المسيح لا يخسر، بل يستثمر في بنك السماء بفوائد مركبة (مئة ضعف) وضمان أبدي (حياة أبدية).

لكن يسوع يضيف تحذيراً: «أولون يصيرون آخرين». الله لا يقيس التضحية بحجم ما تركنا، بل بحالة القلب ونقاوة الدافع. قد يسبق البسطاءُ الكبارَ في الملكوت إذا كان حبهم أعظم.

خلاصة الأصحاح التاسع عشر

• قدسية الزواج: الله هو الذي يعقد الزواج، وبالتالي لا يملك الإنسان حق إنهائه إلا لعلة الزنى؛ فالزواج عهد لا عقد.
• مكانة الأطفال: الملكوت مفتوح للمتواضعين والمعتمدين على الله كالأطفال، وليس للمتكبرين بإنجازاتهم.
• وهم المال: الثروة قد تكون عائقاً ضخماً إذا احتلت القلب. لا يمكنك عبادة الله والمال معاً.
• طريق الكمال: حفظ الوصايا أخلاقياً جيد، لكن الكمال يتطلب تسليم القلب بالكامل وإزالة أي صنم يعيق اتباع المسيح.
• الخلاص بالنعمة: دخول الملكوت مستحيل بقدرات البشر، لكنه ممكن بنعمة الله الغنية.
• عدل المكافأة: الله لا ينسى تضحيات أولاده، ويعوضهم بسخاء يفوق كل ما تركوه لأجله.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url