تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الخامس الفصل 5

تفسير إنجيل مرقس الأصحاح 5 الفصل الخامس
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الخامس الفصل 5


يُقدم الأصحاح الخامس من إنجيل مرقس ثلاثة روايات معجزية متتالية تُظهر بشكل لافت للنظر السلطان المطلق ليسوع المسيح، لا على قوى الطبيعة فحسب (كما رأينا في الأصحاح السابق)، بل أيضًا على أعتى قوى الشر، والأمراض المستعصية، وحتى الموت نفسه. من خلال شفاء الرجل الممسوس بالأرواح النجسة في كورة الجدريين، ثم شفاء المرأة النازفة، وإقامة ابنة يايروس من الموت، يرسم مرقس صورة واضحة ومقنعة ليسوع بصفته المسيح الذي يمتلك كل السلطان الإلهي لإعادة النظام إلى عالم مضطرب، وتقديم الرجاء والشفاء لكل من يؤمن به. هذه المعجزات ليست مجرد أحداث خارقة، بل هي إعلانات عميقة عن هوية يسوع وعن طبيعة ملكوت الله الذي جاء ليؤسسه.





شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد






تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الخامس الفصل 5



1. ثُمَّ جَاءُوا إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ. (مرقس 5: 1)

2. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْ بَيْنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، (مرقس 5: 2)

3. كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلٍ، (مرقس 5: 3)

4. لأَنَّهُ كَانَ قَدْ رُبِطَ كَثِيرًا بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلٍ، فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ. (مرقس 5: 4)

5. وَكَانَ دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا فِي الْقُبُورِ وَفِي الْجِبَالِ، يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ. (مرقس 5: 5)

6. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ، رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ، (مرقس 5: 6)

7. وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: "مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ؟ أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!" (مرقس 5: 7)

8. لأَنَّهُ قَالَ لَهُ: "اخْرُجْ أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ!" (مرقس 5: 8)

9. فَسَأَلَهُ: "مَا اسْمُكَ؟" فَأَجَابَ قَائِلاً: "اسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ." (مرقس 5: 9)

10. وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا أَلاَّ يُرْسِلَهُمْ إِلَى الْهَاوِيَةِ. (مرقس 5: 10)

11. وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْجِبَالِ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ يَرْعَى. (مرقس 5: 11)

12. فَطَلَبَتْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّيَاطِينِ قَائِلَةً: "أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا." (مرقس 5: 12)

13. فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ مِنَ الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ، وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَاخْتَنَقَتْ فِي الْبَحْرِ. (مرقس 5: 13)

14. وَأَمَّا رُعَاةُ الْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ. فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَاذَا جَرَى. (مرقس 5: 14)

15. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ، فَنَظَرُوا الْمَجْنُونَ الَّذِي كَانَ بِهِ اللَّجِئُونُ جَالِسًا وَلاَبِسًا وَعَاقِلًا، فَخَافُوا. (مرقس 5: 15)

16. فَحَدَّثَهُمُ الَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ، وَعَنِ الْخَنَازِيرِ. (مرقس 5: 16)

17. فَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ. (مرقس 5: 17)

18. وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ، طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُونًا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ. (مرقس 5: 18)

19. فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ، بَلْ قَالَ لَهُ: "اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَقْرِبَائِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ فَعَلَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ." (مرقس 5: 19)

20. فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ فَعَلَ بِهِ يَسُوعُ، فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. (مرقس 5: 20)

21. وَلَمَّا اجْتَازَ يَسُوعُ فِي السَّفِينَةِ أَيْضًا إِلَى الْعَبْرِ، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ عِنْدَ الْبَحْرِ. وَكَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ. (مرقس 5: 21)

22. وَإِذَا وَاحِدٌ مِن رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ، اسْمُهُ يَايرُسُ، جَاءَ. فَلَمَّا رَآهُ، خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، (مرقس 5: 22)

23. وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا قَائِلاً: "ابْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَفَسٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا." (مرقس 5: 23)

24. فَمَضَى مَعَهُ. وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ. (مرقس 5: 24)

25. وَامْرَأَةٌ كَانَتْ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، (مرقس 5: 25)

26. وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيرًا مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا مَعَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئًا، بَلْ صَارَتْ أَزْدَادُ سُوءًا. (مرقس 5: 26)

27. لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ، جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ وَلَمَسَتْ ثَوْبَهُ. (مرقس 5: 27)

28. لأَنَّهَا قَالَتْ: "إِنْ لَمَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ." (مرقس 5: 28)

29. فَلِلْوَقْتِ جَفَّ مَنْبَعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جَسَدِهَا أَنَّهَا قَدْ شُفِيَتْ مِنَ الدَّاءِ. (مرقس 5: 29)

30. فَلِلْوَقْتِ الْتَفَتَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ عَالِمًا بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَقَالَ: "مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟" (مرقس 5: 30)

31. فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: "أَنْتَ تَرَى الْجَمْعَ يَزْحَمُكَ، وَتَقُولُ: مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟" (مرقس 5: 31)

32. وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هَذَا. (مرقس 5: 32)

33. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ، عَالِمَةً بِمَا جَرَى لَهَا، فَخَرَّتْ وَأَخْبَرَتْهُ بِالْحَقِّ كُلِّهِ. (مرقس 5: 33)

34. فَقَالَ لَهَا: "يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اذْهَبِي بِسَلاَمٍ، وَكُونِي مُعَافَاةً مِنْ دَائِكِ." (مرقس 5: 34)

35. وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، جَاءَ قَوْمٌ مِنْ دَارِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: "ابْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ الْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟" (مرقس 5: 35)

36. فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قِيلَتْ، قَالَ لِرَئِيسِ الْمَجْمَعِ: "لاَ تَخَفْ! آمِنْ فَقَطْ." (مرقس 5: 36)

37. وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَتْبَعُهُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ. (مرقس 5: 37)

38. وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ، وَرَأَى ضَجَّةً وَبَاكِينَ وَمُوَلْوِلِينَ كَثِيرًا. (مرقس 5: 38)

39. فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ: "لِمَاذَا تَضْجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ." (مرقس 5: 39)

40. فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ، وَأَخَذَ أَبَا الصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَالَّذِينَ مَعَهُ، وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ الصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً. (مرقس 5: 40)

41. وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: "طَلِيثَا قُومِي!" الَّذِي تَفْسِيرُهُ: "يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ: قُومِي!" (مرقس 5: 41)

42. فَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بُهْتًا عَظِيمًا. (مرقس 5: 42)

43. فَأَوْصَاهُمْ كَثِيرًا أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ. (مرقس 5: 43)






1. شفاء ممسوس الجدريين: سلطان يسوع على الأرواح النجسة


بعد تهدئة العاصفة في بحر الجليل، يصل يسوع وتلاميذه إلى كورة الجدريين (منطقة يسكنها غالبًا غير اليهود). حالما يخرج يسوع من السفينة، يقابله "إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ" قادمًا من بين القبور. وصف مرقس لهذا الرجل يبرز بشاعة حالته: كان يسكن في القبور، لا يستطيع أحد أن يربطه حتى بالسلاسل والقيود التي كان يقطعها ويكسرها بقوته الخارقة، وكان دائمًا يصرخ ويجرح نفسه بالحجارة، مما يعكس عذابه الشديد وفقدانه التام للسيطرة على نفسه.



الغريب أن هذا الرجل الممسوس، بمجرد رؤية يسوع من بعيد، "رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ". الشياطين التي فيه عرفت يسوع فورًا، وصرخت بصوت عظيم: "مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ؟ أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!" هذا الاعتراف القسري من الشياطين يكشف عن هوية يسوع الإلهية وسلطانه عليها، كما أنهم كانوا يعرفون مصيرهم النهائي بالعذاب. يسوع كان قد أمر الروح النجس بالخروج من الرجل. وعندما سأل يسوع عن اسمه، أجاب الروح النجس: "اسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ." كلمة "لَجِئُونُ" تشير إلى "فيلق" روماني، وهو ما يعني عددًا كبيرًا جدًا (حوالي 6000 جندي)، مما يبرز مدى استعباد الشياطين لهذا الرجل.



طلب الشياطين من يسوع ألا يرسلهم إلى الهاوية، وبدلًا من ذلك، طلبوا الإذن بالدخول في قطيع خنازير كان يرعى بالجوار. الخنازير كانت حيوانات نجسة لليهود، ووجودها في هذه المنطقة يشير إلى كونها منطقة أممية. أذن لهم يسوع، فخرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير، فاندفع القطيع (حوالي ألفين خنزير) من الجرف إلى البحر واختنقوا.



رعاة الخنازير هربوا وأخبروا الناس في المدينة والضياع بما جرى. عندما جاء الناس ليروا، وجدوا الرجل الممسوس سابقًا "جَالِسًا وَلاَبِسًا وَعَاقِلًا"، وقد استعاد رشده تمامًا. لكن رد فعلهم كان الخوف. خوفهم لم يكن إيمانًا، بل خوفًا على خسائرهم المادية والخوف من قوة يسوع غير المفهومة. لذلك، "ابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ".



أما الرجل الذي شُفي، فقد طلب من يسوع أن يكون معه. لكن يسوع لم يسمح له، بل قال له: "اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَقْرِبَائِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ فَعَلَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ." هذا توجيه مهم: بدلًا من الانضمام إلى التلاميذ، على الرجل أن يكون شاهدًا في بيته ومجتمعه، وأن ينشر خبر عمل الله فيه. فمضى الرجل وابتدأ ينادي في منطقة "العشر المدن" (الديكابوليس) عن عظمة ما فعله يسوع به، فتعجب الجميع.






2. شفاء المرأة النازفة: قوة الإيمان لمسًا


بعد هذا الحدث المذهل، يعبر يسوع مرة أخرى بحر الجليل ويعود إلى الشاطئ الآخر، حيث يتجمع حوله جمع كثير. في هذه الأثناء، يأتي "وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ، اسْمُهُ يَايرُسُ". يايروس كان شخصية ذات نفوذ ديني واجتماعي، لكنه أظهر تواضعًا كبيرًا بخروه وسجوده عند قدمي يسوع، طالبًا العون لابنته "الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَفَسٍ". توسل إليه أن يأتي ويضع يده عليها لتشفى وتحيا. فمضى يسوع معه، وتبعه جمع غفير كانوا يزحمونه.



بينما كانوا في طريقهم إلى بيت يايروس، تبرز قصة أخرى تتداخل معها: امرأة كانت تعاني من نزيف دم منذ اثنتي عشرة سنة. كانت هذه الحالة تجعلها نجسة بحسب الشريعة اليهودية (لاويين 15: 25-27)، مما يعني أنها منبوذة اجتماعيًا ولا يمكنها المشاركة في العبادة. وقد "تَأَلَّمَتْ كَثِيرًا مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا مَعَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئًا، بَلْ صَارَتْ أَزْدَادُ سُوءًا." كانت في حالة من اليأس التام.



لكن عندما سمعت بيسوع، أتى لها أمل جديد. جاءت في الجمع من وراء يسوع (ربما لتتجنب الانتباه بسبب حالتها)، ولمست "ثَوْبَهُ". كان إيمانها عميقًا وبسيطًا: "إِنْ لَمَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ." وفورًا، "جَفَّ مَنْبَعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جَسَدِهَا أَنَّهَا قَدْ شُفِيَتْ مِنَ الدَّاءِ."



في هذه اللحظة، شعر يسوع بقوة خرجت منه، فالتفت وسأل: "مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟" تعجب التلاميذ من سؤاله في ظل زحمة الجموع، لكن يسوع كان "يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هَذَا". حينها، جاءت المرأة، وهي "خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ" بعد أن أدركت ما حدث لها وما فعله يسوع، "فَخَرَّتْ وَأَخْبَرَتْهُ بِالْحَقِّ كُلِّهِ".



رد يسوع عليها كان مليئًا بالنعمة والتأكيد: "يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اذْهَبِي بِسَلاَمٍ، وَكُونِي مُعَافَاةً مِنْ دَائِكِ." لم يوبخها على لمسها في حشد، بل أثنى على إيمانها. هذه المعجزة تؤكد أن الشفاء لا يعتمد فقط على قوة يسوع، بل أيضًا على استجابة الإيمان من قبل المتلقي.







3. إقامة ابنة يايروس: سلطان يسوع على الموت


بينما كان يسوع لا يزال يتكلم مع المرأة، جاء قوم من دار رئيس المجمع يايروس حاملين أخبارًا محطمة: "ابْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ الْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟" كانت هذه الكلمات تعني انتهاء الأمل. لكن يسوع، فور سماعه للخبر، التفت إلى يايروس وقال له كلمات حاسمة: "لاَ تَخَفْ! آمِنْ فَقَطْ." هذا التأكيد على الإيمان في وجه اليأس المطلق هو جوهر الرسالة.



ولم يدع يسوع أحدًا يتبعه إلى بيت يايروس سوى بطرس ويعقوب ويوحنا، وهم تلاميذه المقربون الذين سيكونون شهودًا لأحداث مهمة أخرى. عندما وصلوا إلى البيت، وجدوا "ضَجَّةً وَبَاكِينَ وَمُوَلْوِلِينَ كَثِيرًا"، وهي طقوس الحداد المعتادة في ذلك الوقت. دخل يسوع وقال لهم قولًا غريبًا في نظرهم: "لِمَاذَا تَضْجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ." فضحكوا عليه، معتبرين كلامه سذاجة أو عدم إدراك للواقع.



لكن يسوع، بعد أن أخرج الجميع، أخذ أبوي الصبية والتلاميذ الثلاثة، ودخل إلى حيث كانت الصبية مضطجعة. أمسك بيدها وقال لها باللغة الآرامية: "طَلِيثَا قُومِي!" (والتي يفسرها مرقس: "يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ: قُومِي!"). وفورًا، "قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً". هذه المعجزة المذهلة تركت الجميع في "بُهْتٍ عَظِيمٍ".



وكما في معجزات سابقة، أوصاهم يسوع "كَثِيرًا أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذَلِكَ"، ربما لتجنب الإثارة غير الضرورية أو الفهم الخاطئ لرسالته كملك أرضي. كما أمر بأن "تُعْطَى لِتَأْكُلَ"، تأكيدًا على أنها عادت إلى الحياة الطبيعية تمامًا.






خاتمة: الأصحاح الخامس: سيادة يسوع المطلقة


يُقدم الأصحاح الخامس من إنجيل مرقس ثلاث قصص مترابطة تُظهر بوضوح السلطان الشامل ليسوع المسيح. فمن خلال طرد الفيلق من الرجل الممسوس في كورة الجدريين، أثبت يسوع سلطانه على أعتى قوى الشر الروحية. ومن خلال شفاء المرأة النازفة، كشف عن قدرته على الشفاء من الأمراض المستعصية، مؤكدًا قوة الإيمان. وأخيرًا، بإقامة ابنة يايروس، أظهر يسوع سلطانه المطلق على الموت نفسه.



هذه المعجزات ليست مجرد إظهار للقوة، بل هي إعلانات لاهوتية عميقة: يسوع ليس مجرد معلم أو نبي، بل هو ابن الله الذي يمتلك السيادة الكاملة على كل ما يعصف بالإنسان من شر، ومرض، ويأس، وموت. هذا الأصحاح يدعونا إلى الثقة الكاملة في سلطان يسوع وقدرته على التدخل في أصعب ظروف حياتنا، وأن نؤمن بقدرته على إحياء الرجاء حتى في مواجهة الموت. إنه يدعونا لنسأل أنفسنا: هل نرى في يسوع ذاك الذي له السلطان المطلق على كل شيء، أم نحد من قدرته بمخاوفنا وقلة إيماننا؟

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url