تفسير إنجيل مرقس الأصحاح السادس الفصل 6
![]() |
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح السادس الفصل 6 |
يُقدم الأصحاح السادس من إنجيل مرقس نقطة تحول مهمة في خدمة يسوع، حيث يواجه الرفض من أهل بلده، مما يكشف عن حقيقة أن الإيمان ضروري لرؤية عمل الله. في المقابل، يُظهر هذا الأصحاح توسيعًا لخدمة التلاميذ، إذ يرسلهم يسوع اثنين اثنين بسلطان. كما يتضمن الأصحاح قصة مأساوية لموت يوحنا المعمدان، والتي تذكرنا بالصراع الدائر بين الحق والباطل، وتسبق الأحداث المتعلقة بصلب المسيح. يُختتم الأصحاح بمعجزة إشباع الجموع، التي تُظهر قوة يسوع التي لا حدود لها، وتُقدم لمحة عن عطائه الوفير لخاصته. من خلال هذه الأحداث المتنوعة، يؤكد مرقس على سلطان يسوع، ويُسلط الضوء على تحديات الإيمان، ويُبين كيف أن خدمة ملكوت الله تتطلب التفاني والثقة الكاملة.
شاهد أيضا:
دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح السادس الفصل 6
- (1) ثُمَّ غَادَرَ مِنْ هُنَا، وَعَادَ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَتَلِيهِ تَلاَمِيذُهُ.
- (2) وَلَمَّا أَتَى يَوْمُ السَّبْتِ، اخْتَارَ أَنْ يُعَلِّمَ فِي بَيْتِ الْمَجْمَعِ، فَدَهُشَ السُّامِعُونَ، وَصَاحُوا: «مِنْ أَيْنَ لَهُ هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ أَلَّتِي مُنِحَتْ لَهُ؟ وَكَيْفَ تُؤَدِّي يَدَاهُ مِثْلَ هذِهِ العَجَائِبِ؟»
- (3) فَتَسَاءَلُوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارُ، ابْنُ مَرْيَمَ؟ أَلَيْسَ عِنْدَهُ أَخَوَةٌ بَنَاتٌ هُنَا عِنْدَنَا؟ وَأَلَيْسَ يُوسِي وَيَعْقُوبُ وَيَهُوذَا وَسِمْعَانُ مِنْ أَخْوَتِهِ؟» فَأَلْقُوا عَلَيْهِ شَكَّهم.
- (4) فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لاَ يُكْرَمُ النَّبِيُّ فِي مَكَانِهِ، وَلاَ بَيْنَ أَقَارِبِهِ، وَلاَ فِي بَيْتِهِ».
- (5) وَلَمْ يَسْتَطِعْ هُناكَ أَنْ يُصْنَعَ عَجِيبَةً وَاحِدَةً، إِلاَّ أَنْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ الْمَرْضَى، فَشَفَاهُمْ.
- (6) وَانْدَهَشَ مِنْ قِلَّةِ إِيْمَانِهِمْ، وَقَضَى وَقْتَهُ فِي طَوَافِ الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ مُعَلِّمًا.
- (7) ثُمَّ اسْتَدْعَى الاثْنَيْ عَشَرَ أَرَسَلَهُمْ، اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَمَنَحَهُمْ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ.
- (8) وَأَمَرَهُمْ: «لاَ تَأْخُذُوا مَعَكُمْ فِي الطَّرِيقِ، إِلاَّ عَصًا وَحْدَهَا؛ لاَ مِزْوَدًا، وَلاَ خُبْزًا، وَلاَ نُحَاسَ فِي الأَوْضَاعِ.
- (9) كُونُوا لَابِسِينَ أَحْذِيَةً، وَلَا تَلْبِسُوا ثَوْبَيْنِ.
- (10) وَأَيَّ بَيْتٍ دَخَلْتُمْ فِيهِ، فَأَقِيمُوا حَتَّى تُغَادِرُوا مِنْهُ.
- (11) وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْكُمْ، وَلاَ يَسْمَعْ لَكُمْ، فَاعْتَزِلُوا مِنْهُ، وَانْفُضُوا تُرَابَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ.
- أَحْسِبُ لَكُمُ الْحَقَّ: إنَّ يَوْمَ الدِّينِ سَيَكُونُ عَلَى تِلْكَ الْبِلاَدِ أَشَدَّ مِنْ أَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ.»
- (12) فَخَرَجُوا، وَابْتَدَأُوا يُبَشِّرُونَ بِالتَّوْبَةِ.
- (13) وطَهَّرُوا مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَدَهَنُوا مَرْضَى بِزَيْتٍ، فَشُفُوا.
- (14) لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ عَنِ اسْمِهِ، احْتَفَظَ بِه، وَتَسَاءَلَ: «أَلَعَلَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ؟ لِذَلِكَ تَتِيهُ بِهِ هذِهِ الْقُوَّاتُ.»
- (15) وَقَالَ آخَرُونَ: «لَعَلَّهُ إِيلِيَّا»، وَبَعْضٌ آخَرُونَ: «نَبِيٌّ، كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ».
- (16) فَلَمَّا عَلِمَ هِيرُودُسُ، قَالَ: «إِنَّهُ هُوَ يُوحَنَّا، الَّذِي أَمْسَكْتُ رَأْسَهُ، وَيَتَوَهَّجُ الآنَ».
- (17) فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِسَجْنِهِ لأَجْلِ هِيرُودِيَّا، زَوْجَ أَخِيهِ فِيلُبُّسَ، لِأَنَّ يُوحَنَّا جَهَرَ: «لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجِي زَوْجَ أَخِيكَ!»
- (18) وَلِذَلِكَ امْتْلَأَتْ هِيرُودِيَّا غَضَبًا، وَأَرَادَتْ أَنْ تُهْلِكَ يُوحَنَّا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ.
- (19) لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَحْتَرِمُ يُوحَنَّا، وَيَعْرِفُ أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌ وَقَيِّمٌ، وَكَانَ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ.
- (20) وَلَمَّا جَاءَ يَوْمُ عِيدِهِ، أَقَامَ هِيرُودُسُ وَعَظَمَاؤُهُ وَقُوَّادُ الْآلافِ وَوُجُوهُ الْجَلِيلِ، وَدَعَوْا.
- (21) دَخَلَتِ الابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَرَضِيَ هِيرُودُسُ وَالضُّيُوفُ.
- (22) فَقَالَ: «اطْلُبِي مَا شِئْتِ، فَأُعْطِيَكِ».
- (23) وَأَقْسَمَ أَيْضًا: «إِنَّ مَا طَلَبْتِهُ، أُعْطِيكِهِ، حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي».
- (24) فَخَرَجَتِ الصَّبِيَّةُ، وَسَأَلَتْ أُمَّهَا: «مَاذَا أَطْلُبُ؟» قَالَتْ: «رَأْسَ يُوحَنَّا».
- (25) فَدَخَلَتْ عَلَى سَرِيعٍ قَائِلَةً: «أُرِيدُ رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، الآنَ، عَلَى طَبَقٍ».
- (26) حَزِنَ الْمَلِكُ جِدًّا، وَلكِنَّ حِفْظَ أَقْسَامِهِ وَالضُّيُوفِ مَنَعَهُ.
- (27) فَأَرْسَلَ سَيَّافًا، وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ،
- (28) وَأَتَى بِهِ عَلَى طَبَقٍ، وَأَعْطَاهُ الصَّبِيَّةُ، وَامْتَدَتْ إِلَى يَدِ أُمِّهَا.
- (29) فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، اتَّحَدُوا لِيَأْتُوا، وَنَزَعُوا الجَسَدَ، وَوَضَعُوهُ فِي قَبْرٍ.
- (30) ثُمَّ تَجَمَّعَ الرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ، وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، مَا فَعَلُوا وَمَا عَلَّمُوا.
- (31) فَقَالَ لَهُم: «هَلُمَّوا، لِنَنْطَلِقْ إِلَى مَكَانٍ وَحْدَنَا، وَنَسْتَرِيحْ قَلِيلًا». إِنَّ كَثْرَةَ ذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ جَعَلَتْهُمْ لاَ يَجِدُونَ وَقْتًا لِلأَكْلِ.
- (32) فَانْطَلَقُوا فِي سَفِينَةٍ نَحْوَ مَكَانٍ خَالٍّ وَحْدَهُمْ.
- (33) فَرَأَ الجُمُوعُ وَعَرَفُوهُ، فَسَارَعُوا وَأَلْحَقُوهُمْ مِنَ المُدُنِ.
- (34) وَعِنْدَمَا خَرَجَ يَسُوعُ، رَأَى فِضَّةً كَثِيرَةً كَالغَنَمِ الْبِيَضِ، لاَ رَاعِيَ لَهَا، فَشَرَعَ فِي تَعْلِيمِهُمْ.
- (35) بَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، جَاءَ تَلاَمِيذُهُ فَقَالُوا: «المَكَانُ خَالٍّ، وَقَدْ مَضَى الْوَقْتُ.
- (36) أَبْعِدْ هؤُلاَءِ إِلَى القُرَى وَالأَضْيَاعِ لِيَشْتَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ خُبْزًا، لأَنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِمْ مَا يَأْكُلُونَ».
- (37) فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ أَعْطُوهُمْ لِيَأْكُلُوا».
- (38) فَقَالُوا: «نَأْخُذُ مِئَتَيْ دِينَارٍ، نَشْتَرِي خُبْزًا، وَنُقَدِّمُهُ لَهُمْ؟»
- (39) فَسَأَلَ: «كَمْ رَغِيفًا مَوْجُودًا عِنْدَكُمْ؟» فَتَحَقَّقُوا، وَأَجَابُوا: «خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ».
- (40) فَأَمَرَ أَنْ يُرْتَبُوا جَمِيعًا عَلى الْعُشْبِ وَفِي صُفُوفٍ: مِئَةٌ مِئَةٌ، وَخَمْسُونَ خَمْسُونَ.
- (41) فَأَخَذَ خَمْسَةَ الأَرْغِفَةِ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَبَارَكَ، وَكَسَّرَ الأرْغِفَةَ، وَسَلَّمَها لِتَلَامِيذِهِ، وَقَسَّمَ السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ.
- (42) فَأَكَلَ الْجَمِيعُ، وَامْتَلَأُوا شَبَعًا.
- (43) ثُمَّ جُمِعَتْ الْبَقَايَا: اثْنَا عَشَرَ سَلَّةً مَلأً من الْخُبْزِ وَمِنَ السَّمَكِ.
- (44) وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الْخُبْزِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفٍ رَجُلٍ.
- (45) ثُمَّ أَلْزَمَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَسَيْبْحَرُوا قُبَالَ بَيْتِ صَيْدَا، وَهُوَ يُرْفِضُ الجُمُوعَ.
- (46) وَبَعْدَ أَنْ وَدَّعَهُمْ، تَوَجَّهَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ.
- (47) وَلَمَّا أَظْلَمَتِ اللَّيْلَ، كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ وَحْدَهُ عَلَى الْبَرِّ.
- (48) وَرَآهُمْ يُجَادِفُونَ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ اللَّيْلِ، أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْمِيَاهِ.
- (49) فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ، ظَنُّوهُ وَهْمًا، فَصَرَخُوا.
- (50) لِذَلِكَ أَخْبَرَهُمْ عَلَى الْمَوْقِفِ: «تَوَكَّلُوا، أَنَا هُوَ؛ لاَ تَخَافُوا!»
- (51) فَلَمَّا صَعِدَ إِلَيْهِمْ، رَكِبُوا السَّفِينَةَ، فَسَكَنَتِ الرِّيحُ، وَانْبَهَرُوا فِي ذِهْنِهِمْ إِعْجَابًا.
- (52) لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مُعْجِزَةَ الأَرْغِفَةِ، فَكَانَ قُلُوبُهُمْ صُلْبَةً.
- (53) وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى شَاطِئِ جَنَّيسَارَتَ، أَرْسَوْا.
- (54) وَلَمَّا نَزَلُوا مِنَ السَّفِينَةِ، تَعرَّفُوا عَلَيْهِ.
- (55) فَاحْتَشَدُوا فِي تِلْكَ الْمَنَطِقَةِ، وَبَدَأُوا يَأْتُونَ بِالمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ.
- (56) وَحَيْثُما دَخَلَ، فِي قُرًى أَوْ مَدَائِنَ أَوْ أَضْيَاعٍ، وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَزِقَّةِ، وَطَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ، وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ، شُفِيَ.
1. رفض يسوع في وطنه: عقبة عدم الإيمان
يبدأ الأصحاح بعودة يسوع إلى "وطنه" (غالبًا الناصرة، حيث نشأ) وتلاميذه يتبعونه. في يوم السبت، بدأ يعلم في المجمع. تفاجأ الكثيرون بحكمته ومعجزاته، وسألوا باستغراب: "مِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ؟ وَمَا هِيَ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ، حَتَّى تَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هَذِهِ؟" هذا السؤال يكشف عن دهشتهم من سلطانه.
لكن بدلًا من الإيمان به، قادتهم معرفتهم الشخصية به إلى الازدراء والشك: "أَلَيْسَ هَذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخَا يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَلَيْسَتْ أُخَوَاتُهُ هُنَّ عِنْدَنَا؟" بسبب معرفتهم بتاريخه المتواضع كنجار وبأفراد عائلته المعروفين، لم يتمكنوا من رؤيته كشخصية إلهية أو نبي. "فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ"، أي كانوا يشكّون ويُفقدون إيمانهم بسببه.
أجابهم يسوع بمقولته الشهيرة: "لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ." هذه العبارة تُفسر الظاهرة الشائعة حيث يجد الناس صعوبة في قبول السلطة الروحية لشخص عرفوه عن كثب في بيئة عادية. الأهم من ذلك، يذكر مرقس ملاحظة صادمة: "وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ." هذا لا يعني أن يسوع فقد سلطانه، بل أن عدم إيمان أهل وطنه كان عائقًا أمام ظهور قدرته. المعجزات عادة ما تتطلب استجابة من الإيمان، وعندما يغيب هذا الإيمان، تتوقف القوة الإلهية عن الظهور بنفس الطريقة. هذا المشهد يدل على أن الإيمان هو مفتاح لعمل الله. وقد "تَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ"، مما يدل على حزنه وخيبة أمله.
2. إرسال الاثني عشر: خدمة الإنجيل بسلطان وتواضع
بعد رفضه في الناصرة، يواصل يسوع تعليمه في القرى المحيطة. ثم يدعو تلاميذه الاثني عشر "وَيَبْتَدِئُ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ"، وهي استراتيجية تعطي قوة ودعمًا لبعضهم البعض، وتُمكنهم من تغطية مناطق أوسع. الأهم من ذلك، أنه "أَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ" وعلى شفاء الأمراض (كما في الأصحاح السابق).
أوصاهم يسوع بإرشادات محددة جدًا بخصوص رحلتهم:
- التوكل المطلق على الله: "أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصَا فَقَطْ: لاَ مِزْوَدًا، وَلاَ خُبْزًا، وَلاَ نُحَاسًا فِي الْمِنْطَقَةِ. بَلْ يَكُونُوا مَلْبُوسِينَ بِنِعَالٍ، وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ." هذه التعليمات تهدف إلى غرس الاعتماد الكلي على العناية الإلهية وعلى ضيافة الناس الذين سيلتقون بهم.
- العيش في مكان واحد: "حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا، فَامْكُثُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ." هذا يمنعهم من البحث عن أفضل مكان للإقامة، ويرسخ تواضعهم.
- التعامل مع الرفض: "وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا تُرَابَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ." هذه لفتة رمزية تُظهر أنهم قد أدوا واجبهم، وأن مسؤولية الرفض تقع على عاتق من رفضوا الكلمة. التحذير بأن "يَكُونُ لِسَدُومَ وَعَمُورَةَ فِي يَوْمِ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ" يؤكد خطورة رفض رسالة ملكوت الله.
خرج التلاميذ وبدأوا "يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا"، وأخرجوا شياطين كثيرة، ودهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم. هذا يدل على أنهم مارسوا السلطان الذي أعطاهم إياه يسوع.
3. استشهاد يوحنا المعمدان: ثمن الحق
يتخلل رواية مرقس لخدمة يسوع وقصة التلاميذ خبر موت يوحنا المعمدان، وهو حدث مأساوي يكشف عن فساد السلطة وجرأة الحق. فقد سمع الملك هيرودس أنتيباس عن شهرة يسوع، وظن أنه يوحنا المعمدان قد قام من الأموات، مما يدل على اضطراب ضميره. بينما آخرون ظنوا أنه إيليا أو نبي آخر.
يشرح مرقس تفاصيل إلقاء القبض على يوحنا: "لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ،6 لأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا." كانت هيروديا قد تزوجت هيرودس بشكل غير شرعي لأنها كانت زوجة أخيه فيلبس. يوحنا المعمدان، بشجاعته المعتادة، واجه هيرودس ووبخه قائلاً: "لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ."
هيروديا حقدت على يوحنا وأرادت قتله، لكنها لم تستطع، لأن هيرودس كان يتقي يوحنا، "عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ كَثِيرٍ، وَفَعَلَ كَثِيرًا، وَكَانَ يَسْمَعُهُ." هذا يظهر أن هيرودس كان مترددًا، متأثرًا بضميره وبشخصية يوحنا القوية.
الفرصة السانحة لهيروديا جاءت في يوم ميلاد هيرودس، عندما أقام وليمة لعظمائه وقواده. رقصت ابنة هيروديا (سالومي) وأعجبت هيرودس والحاضرين لدرجة أنه أقسم لها: "مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ، حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي." بتوجيه من أمها الحقودة، طلبت سالومي "رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ فِي طَبَقٍ". حزن هيرودس جدًا، لكنه لم يستطع أن يتراجع عن قسمه أمام ضيوفه. فأرسل جلاّدًا وقطع رأس يوحنا في السجن، وأُتي بالرأس في طبق وسُلّم للصبية التي أعطته لأمها. وعندما سمع تلاميذ يوحنا، جاءوا ودفنوا جسده. هذه القصة تُسلط الضوء على شراسة الشر في مواجهة الحق، وتُقدم لمحة عن مصير يسوع نفسه.
4. إشباع الخمسة آلاف: سلطان يسوع على الاحتياج
بعد أن أتم الرسل خدمتهم، اجتمعوا بيسوع وأخبروه بكل ما فعلوه وعلموه. كان الجموع هائلة، ولم يجدوا وقتًا حتى للأكل، فقال لهم يسوع: "تَعَالَوْا أَنْتُمْ فَقَطْ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلًا." فذهبوا في سفينة إلى مكان خالٍ على انفراد.
لكن الجموع رأتهم وعرفوا وجهتهم، فتراكضوا سيرًا على الأقدام من جميع المدن وسبقوهم إلى هناك. عندما خرج يسوع ورأى "جَمْعًا كَثِيرًا فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، لأَنَّهُمْ كَانُوا كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا". لم ينزعج من مقاطعتهم لراحته، بل امتلأ بالشفقة عليهم وبدأ يعلمهم كثيرًا.
عندما حل المساء، وكان المكان خلاءً ولا يوجد طعام، تقدم التلاميذ إلى يسوع واقترحوا عليه أن يصرف الجموع ليذهبوا ويشتروا لأنفسهم طعامًا. لكن يسوع فاجأهم بقوله: "أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا." عندما ردوا عليه مستنكرين: "أَنَذْهَبُ وَنَشْتَرِي خُبْزًا بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيَهُمْ لِيَأْكُلُوا؟" (200 دينار كانت أجر سنة كاملة لعمال، وهو مبلغ ضخم)، سألهم يسوع: "كَمْ رَغِيفًا عِنْدَكُمْ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا!" فأخبروه أن لديهم "خَمْسَةٌ، وَسَمَكَتَانِ."
أمر يسوع الجموع أن يجلسوا في مجموعات منظمة (مئة بمئة وخمسين بخمسين) على العشب الأخضر. ثم أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع نظره نحو السماء، وبارك، وكسّر الخبز وأعطى لتلاميذه ليقدموا للجموع، وقسم السمكتين أيضًا. "فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا." وبعد أن أكلوا، جمع التلاميذ من الكسر "اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءَةً، وَمِنَ السَّمَكِ". وكان عدد الرجال الذين أكلوا حوالي خمسة آلاف، بخلاف النساء والأطفال.
هذه المعجزة الهائلة تُظهر سلطان يسوع المطلق على الموارد المادية وقدرته على الإشباع الوفير. إنها ليست مجرد معجزة إطعام، بل هي إشارة إلى يسوع بصفته خبز الحياة الذي يشبع كل احتياجات البشر. كما أنها تُعد تدريبًا عمليًا للتلاميذ على الثقة في قوة يسوع التي تفوق أي منطق بشري.
5. المشي على الماء: سلطان يسوع على الصعاب
بعد إشباع الجموع، ألزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى الشاطئ الآخر، بينما هو يصرف الجموع. بعد أن ودعهم، صعد إلى الجبل "لِيُصَلِّيَ". هذا يكشف عن اعتماده على الصلاة وتواصله مع الآب.
عندما حل المساء، كانت السفينة في وسط البحر، ويسوع وحده على البر. "فَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي التَّجْدِيفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ." على الرغم من بعده، كان يسوع يراقبهم ويعلم بمعاناتهم. في "الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ" (أي بين الساعة 3 و 6 صباحًا)، أتاهم مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ، "وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ". عندما رأوه ماشيًا على الماء، ظنوه "خَيَالًا" (روحًا أو شبحًا) فصرخوا من الرعب.
ولكن يسوع طمأنهم فورًا: "ثِقُوا! أَنَا هُوَ! لاَ تَخَافُوا!" عبارة "أَنَا هُوَ" (إيغو إيمي باليونانية) هي إشارة قوية لهوية يسوع الإلهية (مثل إعلان الله عن نفسه لموسى: "أنا هو الذي هو"). بمجرد أن صعد إلى السفينة، "سَكَنَتِ الرِّيحُ". أصيب التلاميذ بـ"بُهْتٍ عَظِيمٍ" وتعجبوا، لأنهم "لَمْ يَفْهَمُوا أَمْرَ الْخُبْزِ، إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً". هذا يربط بين معجزتي إشباع الخمسة آلاف والمشي على الماء: فشلهم في فهم الأولى (سلطانه على الإشباع) أدى إلى عدم استيعابهم الكامل لسلطانه على الطبيعة في الثانية.
6. الشفاء في جنيسارت: استجابة سريعة للإيمان
بعد عبور البحر، وصلوا إلى أرض جنيسارت، وبمجرد خروجهم من السفينة، عرفه الناس فورًا. انتشر الخبر في الكورة كلها، وبدأ الناس "يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ حَيْثُمَا سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ". وفي كل قرية أو مدينة أو ضيعة دخلها، كانوا يضعون المرضى في الأسواق ويطلبون منه أن يلمسوا "وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ" (الحافة السفلية لثوبه). ويكرر مرقس التأكيد: "وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ." هذا يوضح الإيمان العميق للناس في هذه المنطقة وقوة يسوع الشفائية التي لا تحدها مكانة أو وضع اجتماعي، بل يلمسها الإيمان البسيط.
خاتمة: الأصحاح السادس: الإيمان والرفض والسلطان
يُظهر الأصحاح السادس من إنجيل مرقس تباينًا حادًا بين الرفض البشري لسلطان يسوع في وطنه، وإظهاره المطلق لهذا السلطان في مناطق أخرى. رفض أهل الناصرة ليسوع بسبب معرفتهم الشخصية به، مما قيد قدرته على عمل المعجزات هناك، يؤكد على أهمية الإيمان كشرط للاستقبال والشفاء.
في المقابل، يُظهر إرسال التلاميذ بسلطانهم لخدمة ملكوت الله، وكيف أنهم نجحوا في الكرازة والشفاء. كما تُسجل القصة المأساوية لموت يوحنا المعمدان تذكيرًا بتكلفة إعلان الحق في عالم يكره النور.
ويختتم الأصحاح بمعجزتين عظيمتين: إشباع الخمسة آلاف والمشي على الماء. هاتان المعجزتان تُبرزان سلطان يسوع على الاحتياجات المادية وعلى قوى الطبيعة. كما أنهما يُسلطان الضوء على ضعف فهم التلاميذ، حتى بعد كل ما رأوه، مما يدعو إلى المزيد من النمو في الإيمان. يدعونا هذا الأصحاح إلى فحص إيماننا الخاص: هل نفتح قلوبنا لاستقبال يسوع وسلطانه في كل جوانب حياتنا، أم نحد من عمله بسبب شكوكنا أو معرفتنا السطحية به؟