تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الثامن الفصل 8
![]() |
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الثامن الفصل 8 |
يُعد الأصحاح الثامن من إنجيل مرقس محوريًا في إنجيله، حيث يتنقل يسوع من إظهار سلطانه الخارجي عبر المعجزات إلى البدء في الكشف عن طبيعة آلامه وموته وقيامته الوشيكة. يبدأ الأصحاح بمعجزة إشباع ثانية للجموع، تُظهر استمرارية رحمة يسوع وقدرته على العطاء الوفير. لكنه سرعان ما يواجه طلب الفريسيين لآية، يكشف عن قساوة قلوبهم. المحور الرئيسي في هذا الأصحاح هو فهم التلاميذ المتأخر لهوية يسوع وخطته الإلهية، والذي يتجلى في اعتراف بطرس بأن يسوع هو المسيح، يليه مباشرة توبيخ يسوع له عندما رفض فكرة الآلام. يُختتم الأصحاح بتعليم يسوع حول تبعة المسيح، مؤكدًا على ضرورة حمل الصليب والتضحية بالنفس لأجل ملكوت الله.
شاهد أيضا:
دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح الثامن الفصل 8
- (1) فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، حِينَ امْتَلَأَتِ الْأَرْجَاءُ بِالْبَشَرِ، وَكَانَ الْجُوعُ يَقْرَعُ أَبْوَابَهُمْ، الْتَفَتَ الْمَسِيحُ إِلَى تَلَامِيذِهِ وَخَاطَبَهُمْ:
- (2) "يُؤْسِفُنِي حَالُ هَؤُلَاءِ النَّاسِ، فَقَدْ أَمْضَوْا مَعِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِتَمَامِهَا وَالْآنَ لَا يَجِدُونَ زَادًا."
- (3) "وَلَوْ تَرَكْتُهُمْ يَرْحَلُونَ إِلَى دِيَارِهِمْ وَهُمْ خَاوُو الْبُطُونِ، لَغَادَرَهُمُ الْقُوَّةُ فِي الطَّرِيقِ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ قَطَعُوا دُرُوبًا طَوِيلَةً."
- (4) رَدَّ التَّلَامِيذُ بِاسْتِغْرَابٍ: "مِنْ أَيْنَ لَنَا أَنْ نَجِدَ خُبْزًا كَافِيًا لِإِطْعَامِ كُلِّ هَؤُلَاءِ هُنَا فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ النَّائِيَةِ؟"
- (5) سَأَلَهُمْ: "كَمْ رَغِيفًا مَعَكُمْ؟" أَجَابُوا: "سَبْعَةٌ."
- (6) فَأَمَرَ الْجَمْعَ بِأَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْأَرْضِ.
- (7) ثُمَّ تَنَاوَلَ الْأَرْغِفَةَ السَّبْعَةَ، وَرَفَعَ الشُّكْرَ عَلَيْهَا، وَقَسَّمَهَا، وَسَلَّمَهَا لِتَلَامِيذِهِ لِيُوَزِّعُوهَا، فَقَدَّمُوهَا إِلَى الْحَشْدِ.
- (8) وَكَانَ لَدَيْهِمْ أَيْضًا بِضْعَةُ أَسْمَاكٍ صَغِيرَةٍ، فَبَارَكَهَا وَأَشَارَ بِتَقْدِيمِهَا كَذَلِكَ.
- (9) فَأَكَلَ الْجَمِيعُ حَتَّى اكْتَفَوْا. وَبَعْدَهَا، جُمِعَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْفُتَاتِ، فَمَلَأَ سَبْعَةَ سِلَالٍ.
- (10) وَكَانَ عَدَدُ مَنْ تَنَاوَلُوا الطَّعَامَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلَافٍ. ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ بِالِانْصِرَافِ.
- (11) وَفَوْرًا، صَعِدَ إِلَى السَّفِينَةِ مَعَ تَلَامِيذِهِ وَاتَّجَهُوا نَحْوَ مِنْطَقَةِ دَالْمَانُوثَةَ.
- (12) فَجَاءَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَبَدَأُوا يُنَاقِشُونَهُ، مُطَالِبِينَ بِبُرْهَانٍ مِنَ السَّمَاءِ، فِي مُحَاوَلَةٍ لِاخْتِبَارِهِ.
- (13) فَتَنَهَّدَ مِنْ أَعْمَاقِهِ وَقَالَ: "لِمَاذَا يُصِرُّ هَذَا الْجِيلُ عَلَى طَلَبِ آيَةٍ؟ أَقُولُ لَكُمُ الْحَقِيقَةَ: لَنْ تُتَحَ لِهَذِهِ الْأَجْيَالِ أَيُّ مُعْجِزَةٍ!"
- (14) ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَدَخَلَ السَّفِينَةَ مَرَّةً أُخْرَى وَعَبَرَ إِلَى الضَّفَّةِ الْأُخْرَى.
- (15) وَكَانُوا قَدْ نَسُوا أَنْ يُحْضِرُوا خُبْزًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ إِلَّا رَغِيفٌ وَاحِدٌ.
- (16) فَحَذَّرَهُمْ قَائِلًا: "انْتَبِهُوا! وَاحْذَرُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَمِنْ خَمِيرِ هِيرُودُسَ!"
- (17) فَتَنَاقَشُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَائِلِينَ: "السَّبَبُ هُوَ أَنَّنَا لَا نَمْلِكُ خُبْزًا."
- (18) فَأَدْرَكَ يَسُوعُ مَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: "لِمَاذَا تَتَحَاوَرُونَ حَوْلَ عَدَمِ وُجُودِ خُبْزٍ؟ أَلَا تُدْرِكُونَ بَعْدُ وَلَا تَفْهَمُونَ؟ أَلَا تَزَالُ قُلُوبُكُمْ مُتَحَجِّرَةً؟"
- (19) "لَدَيْكُمْ أَعْيُنٌ وَلَكِنَّكُمْ لَا تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلَكِنَّكُمْ لَا تَسْمَعُونَ، وَلَا تَتَذَكَّرُونَ؟"
- (20) "عِنْدَمَا قَسَمْتُ الْخَمْسَةَ الْأَرْغِفَةَ لِلْخَمْسَةِ الْآلَافِ، كَمْ سَلَّةٍ مَمْلُوءَةٍ بِالْبَقَايَا جَمَعْتُمْ؟" أَجَابُوهُ: "اثْنَتَيْ عَشْرَةَ."
- (21) "وَعِنْدَمَا قَسَمْتُ السَّبْعَةَ الْأَرْغِفَةَ لِلْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ، كَمْ سَلَّةٍ مَمْلُوءَةٍ بِالْبَقَايَا جَمَعْتُمْ؟" فَقَالُوا: "سَبْعَةً."
- (22) فَقَالَ لَهُمْ: "كَيْفَ لَا تَزَالُونَ لَا تَفْهَمُونَ؟"
- (23) ثُمَّ وَصَلَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، حَيْثُ أَحْضَرُوا إِلَيْهِ رَجُلًا أَعْمَى وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ.
- (24) فَأَخَذَ الْأَعْمَى بِيَدِهِ وَأَخْرَجَهُ خَارِجَ الْقَرْيَةِ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ: "هَلْ تَرَى أَيَّ شَيْءٍ؟"
- (25) فَنَظَرَ الرَّجُلُ وَقَالَ: "أَرَى النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَشْجَارٌ تَتَحَرَّكُ."
- (26) ثُمَّ وَضَعَ يَسُوعُ يَدَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى عَيْنَيْهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُمْعِنَ النَّظَرَ. فَعَادَ بَصَرُهُ سَلِيمًا وَرَأَى كُلَّ شَخْصٍ بِوُضُوحٍ تَامٍّ.
- (27) ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ قَائِلًا: "لَا تَدْخُلِ الْقَرْيَةَ، وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا فِيهَا."
- (28) غَادَرَ يَسُوعُ وَتَلَامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ، سَأَلَ تَلَامِيذَهُ: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟"
- (29) فَأَجَابُوا: "بَعْضُهُمْ يَقُولُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ، وَآخَرُونَ إِيلِيَا، وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ."
- (30) فَسَأَلَهُمْ هُوَ: "وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟" فَأَجَابَ بُطْرُسُ عَلَى الْفَوْرِ: "أَنْتَ الْمَسِيحُ!"
- (31) فَأَمَرَهُمْ يَسُوعُ بِحَزْمٍ أَلَّا يُخْبِرُوا أَحَدًا عَنْهُ.
- (32) وَبَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ بِضَرُورَةِ أَنْ يَتَأَلَّمَ ابْنُ الْإِنْسَانِ كَثِيرًا، وَأَنْ يَرْفُضَهُ الشُّيُوخُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَأَنْ يُقْتَلَ، ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
- (33) وَكَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ بِوُضُوحٍ. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ عَلَى حِدَةٍ وَبَدَأَ يَلُومُهُ.
- (34) فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَ إِلَى تَلَامِيذِهِ، وَوَبَّخَ بُطْرُسَ قَائِلًا: "ابْتَعِدْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! فَإِنَّ اهْتِمَامَكَ لَيْسَ بِمَا هُوَ إِلَهِيٌّ بَلْ بِمَا هُوَ بَشَرِيٌّ."
- (35) ثُمَّ نَادَى الْجَمْعَ إِلَى جَانِبِ تَلَامِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَسِيرَ خَلْفِي، فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَاتَهُ وَيَحْمِلَ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعَنِي."
- (36) "لِأَنَّ مَنْ يَسْعَى لِإِنْقَاذِ حَيَاتِهِ سَيَفْقِدُهَا، وَمَنْ يَفْقِدُ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الْبِشَارَةِ، فَإِنَّهُ سَيَجِدُهَا."
- (37) "فَمَاذَا يَجْنِي الْإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ وَخَسِرَ رُوحَهُ؟"
- (38) "أَوْ مَاذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِنْسَانُ فِدْيَةً عَنْ رُوحِهِ؟"
- (39) "لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلَامِي فِي هَذَا الْجِيلِ الْمَلِيءِ بِالْخَطَايَا وَالْفَسَادِ، فَإِنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ سَيَسْتَحِي بِهِ عِنْدَمَا يَأْتِي بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْأَطْهَارِ."
1. إشباع الأربعة آلاف: رحمة يسوع المتجددة
يبدأ الأصحاح الثامن بمعجزة إشباع ثانية للجموع، بعد معجزة إشباع الخمسة آلاف في الأصحاح السادس. هذه المرة، كان الجمع "كَثِيرًا جِدًّا" وظلوا مع يسوع لمدة ثلاثة أيام، مما أدى إلى نفاد طعامهم. يعبر يسوع عن شفقته عليهم: "إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ صَائِمِينَ إِلَى بُيُوتِهِمْ، يَخْوَرُونَ فِي الطَّرِيقِ، لأَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ."
هنا يظهر التلاميذ نفس النقص في الفهم الذي أظهروه سابقًا. على الرغم من أنهم شهدوا معجزة الإشباع الأولى، إلا أنهم سألوا: "مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزًا هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟" يسوع لا يوبخهم، بل يسألهم ببساطة عن المتاح لديهم: "كَمْ رَغِيفًا عِنْدَكُمْ؟" فأجابوا: "سَبْعَةٌ."
أمر يسوع الجموع أن يتكئوا على الأرض. ثم أخذ الأرغفة السبعة و"شَكَرَ، وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا". كان لديهم أيضًا "قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ"، فباركها أيضًا. "فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا"، وكان عددهم حوالي أربعة آلاف رجل. المثير للدهشة، أنهم جمعوا "سَبْعَةَ سِلاَلٍ مَمْلُوءَةً" من فضالات الكسر، مما يدل على وفرة المعجزة.
تُظهر هذه المعجزة مرة أخرى رحمة يسوع العميقة تجاه احتياجات البشر، وسلطانه الإلهي على إشباعهم حتى في البرية. كما أنها تُبرز استمرارية تحدي التلاميذ في فهم قدرة يسوع اللامحدودة، على الرغم من المعجزات المتكررة.
2. طلب آية من الفريسيين: قسوة القلب وعدم الفهم
بعد إشباع الجموع، دخل يسوع السفينة مع تلاميذه وجاء إلى نواحي دلمانوثة. هناك، خرج إليه الفريسيون "وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ، يُجَرِّبُونَهُ." لم يكن طلبهم للإيمان، بل للتجربة والشك، كأنهم يقولون: "أظهر لنا علامة قوية لكي نؤمن بك، ونحن نضع الشروط."
استجاب يسوع "فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ" (تعبير عن حزنه العميق) وقال: "لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً!" لقد رأوا بالفعل الكثير من المعجزات على الأرض، لكنهم لم يؤمنوا. كانوا يطلبون برهانًا سماويًا مع أن برهان ملكوت الله كان قائمًا بينهم في شخص يسوع وأعماله. إن قلوبهم كانت مغلقة، ولم تكن أي آية إضافية ستغير ذلك. فتركهم يسوع ودخل السفينة مرة أخرى.
3. خمير الفريسيين وهيرودس: غلظة قلوب التلاميذ
في طريقهم عبر البحر، نسي التلاميذ أن يأخذوا معهم خبزًا، ولم يكن معهم في السفينة سوى رغيف واحد. هنا يوجه يسوع تحذيرًا لهم: "انْظُرُوا! وَتَحَفَّظُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ!"
بدلًا من فهم المعنى الروحي لكلامه، بدأ التلاميذ يتحاورون فيما بينهم، يظنون أن يسوع يتحدث حرفيًا عن عدم وجود الخبز: "إِنَّ لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ."
شعر يسوع بحالتهم وقال لهم: "لِمَاذَا تَتَحَاوَرُونَ أَنَّ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَفْهَمُونَ بَعْدُ وَلاَ تُدْرِكُونَ؟ أَفَقُلُوبُكُمْ بَعْدُ غَلِيظَةٌ؟ لَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ؟" ثم يذكرهم بالمعجزتين الأخيرتين:
- "حِينَ كَسَّرْتُ الْخَمْسَةَ الأَرْغِفَةِ لِلْخَمْسَةِ الآلاَفِ، كَمْ قُفَّةَ كِسَرٍ مَمْلُوءَةً رَفَعْتُمْ؟" فأجابوا: "اثْنَتَيْ عَشْرَةَ."
- "وَحِينَ السَّبْعَةَ لِلأَرْبَعَةِ الآلاَفِ، كَمْ سَلَّ كِسَرٍ مَمْلُوءَةً رَفَعْتُمْ؟" فأجابوا: "سَبْعَةً."
ينهي يسوع سؤاله بتوبيخ: "كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟" هذا الحوار يكشف عن غلظة قلوب التلاميذ وبطئهم في إدراك المعنى الأعمق لمعجزات يسوع. لم يفهموا بعد أن يسوع ليس مجرد صانع معجزات، بل هو الذي يمتلك كل السلطان، وأن كلامه عن "الخمير" يشير إلى تأثير تعاليم الفريسيين الخبيثة (الرياء، التقاليد، التمسك بالحرف) وسياسة هيرودس الشريرة (الفساد، التآمر).
4. شفاء الأعمى في بيت صيدا: استعادة البصيرة على مراحل
بعد هذه المحادثة، وصل يسوع إلى بيت صيدا، حيث أحضروا إليه أعمى وطلبوا منه أن يلمسه. أخذ يسوع الأعمى "بِيَدِهِ وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ" (ربما لتجنب الإثارة العامة أو بسبب عدم إيمان أهل القرية). ثم "تَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ" وسأله: "هَلْ تَبْصِرُ شَيْئًا؟"
أجاب الرجل: "أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَشْجَارٌ يَمْشُونَ." هذا الشفاء كان فريدًا من نوعه، إذ لم يكن فوريًا وكاملاً، بل على مرحلتين. ثم "وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضًا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحًا وَرَأَى كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيًّا." هذا الشفاء التدريجي قد يكون رمزيًا لفهم التلاميذ أنفسهم. فمثل هذا الأعمى، هم يرون يسوع ولكن بصورة مشوشة، وسيحتاجون إلى المزيد من "اللمسات" الإلهية لكي يرى إيمانهم الحقيقة الكاملة لهويته ورسالته. أمره يسوع ألا يدخل القرية ولا يخبر أحدًا، مما يعكس سياسة "سر المسيح" في مرقس.
5. اعتراف بطرس وتوبيخه: هوية المسيح وطريق الآلام
تُعتبر هذه النقطة من أهم النقاط في إنجيل مرقس. يسوع وتلاميذه يذهبون إلى قرى قيصرية فيلبس (منطقة أممية ووثنية). في الطريق، يسأل يسوع تلاميذه سؤالًا محوريًا: "مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟" فأجابوا بالتفسيرات الشائعة: "يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ." كانت هذه كلها إجابات صحيحة جزئيًا، ولكنها لا تلامس حقيقة هويته الكاملة.
ثم يسألهم يسوع السؤال الأهم، الموجه إليهم شخصيًا: "وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟" هنا يجيب بطرس، نيابة عن التلاميذ، إجابة مدوية: "أَنْتَ الْمَسِيحُ!" هذا الاعتراف هو نقطة فاصلة، حيث يقر التلاميذ (على الأقل بطرس) بأن يسوع هو المسيح المنتظر. أمرهم يسوع "لِكَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ" في هذه المرحلة، لأن مفهومهم عن المسيح كان لا يزال ناقصًا ويحتاج إلى تصحيح.
فورًا بعد هذا الاعتراف، "ابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ."3 هذا هو أول إعلان صريح ليسوع عن آلامه وموته وقيامته. لقد كشف عن جوهر مهمته، الذي كان يختلف تمامًا عن توقعات التلاميذ للمسيح المنتصر سياسيًا.
"وَأَظْهَرَ الْقَوْلَ عَلَانِيَةً." مما يدل على أنه لم يقل ذلك سرًا. فكان رد فعل بطرس صادمًا: "فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ" (أي يلومه أو يوبخه). هذا يكشف عن أن بطرس، على الرغم من اعترافه بأن يسوع هو المسيح، إلا أنه لم يفهم بعد طبيعة عمل المسيح الحقيقية، والتي تتضمن الألم والموت. رؤيته كانت بشرية، تركز على المجد الأرضي.
فالتفت يسوع وأبصر تلاميذه، "وَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلًا: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ." هذا التوبيخ القاسي لبطرس، الذي وصفه فيه بالشيطان، يوضح خطورة فكرة التهرب من الألم والصليب. إنها فكرة مصدرها الشيطان، الذي يريد أن يبعد يسوع عن تحقيق خطة الفداء الإلهية. يسوع يوضح أن التركيز على المجد البشري والراحة الذاتية يتنافى مع مشيئة الله.
6. دعوة يسوع لحمل الصليب: تبعة المسيح الحقيقية
بعد توبيخ بطرس، دعا يسوع "الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ" ليعلمهم درسًا أساسيًا عن تبعيته: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي." هذا التعليم هو دعوة جذرية للتلمذة:
- إنكار النفس: ليس مجرد حرمان ذاتي، بل إنكار الذات الأنانية ووضع مشيئة الله أولًا.
- حمل الصليب: إشارة إلى الاستعداد للموت، والتضحية، وقبول الألم، والتخلي عن الراحة الشخصية من أجل المسيح. الصليب لم يكن رمزًا للمجد بل للموت والخزي.
- واتباعي: السير في خطى يسوع، حتى لو كانت هذه الخطى تؤدي إلى الصليب.
ثم يشرح يسوع لماذا هذا الطريق هو الطريق الوحيد للحياة الحقيقية: "لأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهَذَا يُخَلِّصُهَا." هذه هي المفارقة الإنجيلية: الحياة الحقيقية تُكتسب من خلال التضحية بالنفس.
ويضيف: "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدْيَةً عَنْ نَفْسِهِ؟" لا شيء في العالم يمكن أن يعوض خسارة الروح الأبدية.
ويُختتم هذا التعليم بتحذير جاد: "لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هَذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ، فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ."4 هذا يؤكد على أهمية عدم الخجل من الإيمان بالمسيح في عالم معادٍ، وأن الاعتراف بيسوع علانية له مكافأته في مجيئه الثاني.
خاتمة: الأصحاح الثامن: محور الإنجيل – من الألوهية إلى الصليب
يُعد الأصحاح الثامن من إنجيل مرقس نقطة تحول محورية في سرد مرقس لحياة يسوع. يبدأ الأصحاح بمشهد مألوف لمعجزات الإشباع، لكنه ينتقل بسرعة إلى الكشف عن قلوب غير الفاهمة، سواء كانوا فريسيين يطلبون آيات زائفة أو تلاميذ بطيئين في الإدراك.
اللحظة الحاسمة هي اعتراف بطرس بأن يسوع هو المسيح، والذي يمثل قمة الفهم البشري لهوية يسوع في هذه المرحلة. لكن هذا الفهم سرعان ما يُصحح بتعليم يسوع الصريح والمباشر عن ضرورة آلامه وموته وقيامته. هذا التعليم يكسر كل التوقعات المسبقة للمسيح كملك سياسي أو عسكري.
رسالة الأصحاح الثامن هي أن المسيح الحقيقي ليس مسيح المجد الأرضي، بل المسيح المتألم المصلوب. وتبيعة هذا المسيح لا تعني السعي وراء الراحة والمكاسب، بل تتطلب إنكار الذات، وحمل الصليب، والتضحية من أجل الإنجيل. إنه تحدٍ لكل من يتبع يسوع ليُركز على ما هو لله، لا على ما هو للناس، وليُدرك أن الطريق إلى الحياة الحقيقية يمر عبر الموت عن الذات. فهل نحن مستعدون لحمل صليبنا وتبعيته؟