تفسير إنجيل مرقس الأصحاح التاسع الفصل 9
![]() |
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح التاسع الفصل 9 |
يُعد الأصحاح التاسع من إنجيل مرقس استمرارًا مباشرًا للمواضيع التي بدأت في الأصحاح الثامن، حيث ينتقل التركيز من الإعلان عن آلام المسيح إلى إظهار مجده وسلطانه. يبدأ الأصحاح بحدث التجلي، وهو الكشف عن لاهوت يسوع ومجده السماوي أمام ثلاثة من تلاميذه، مما يؤكد هويته الإلهية بعد اعتراف بطرس. يليه مباشرةً معجزة شفاء الصبي الممسوس الذي يعاني من روح صماء وخرساء، والتي تُبرز عجز التلاميذ وحاجة الإيمان، وتُعيد تأكيد سلطان يسوع المطلق على الشياطين. يتخلل هذا الأصحاح تنبؤ يسوع الثاني بآلامه وقيامته، مما يُظهر استمرار عدم فهم التلاميذ رغم رؤيتهم لمجده. يُختتم الأصحاح بتعليمات عميقة حول التواضع، وعدم العثرة، وأهمية الملح كرمز للنقاء والسلام في حياة التلمذة.
شاهد أيضا:
دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد
دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد
تفسير إنجيل مرقس الأصحاح التاسع الفصل 9
- (1) وَقَالَ لَهُمْ: «أُقْسِمُ لَكُمْ بِالْحَقِّ: مِنَ الْحَاضِرِينَ هُنَا مَنْ لَنْ يَذُوقُوا طَعْمَ الْمَوْتِ حَتَّى يُبْصِرُوا مَمْلَكَةَ الرَّبِّ قَدْ حَضَرَتْ بِجَلَالِ قُوَّتِهَا.»
- (2) وَبَعْدَ مُرُورِ سِتَّةِ أَيَّامٍ، أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَاعْتَلَى بِهِمْ جَبَلًا شَاهِقًا فِي خَلْوَةٍ. وَهُنَاكَ، تَحَوَّلَتْ هَيْئَتُهُ أَمَامَ أَعْيُنِهِمْ.
- (3) وَصَارَتْ حُلَّتُهُ تَبْرُقُ نَقَاءً، نَاصِعَةَ الْبَيَاضِ كَالثَّلْجِ، لَا يَقْوَى غَاسِلٌ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ يُصَيِّرَ ثَوْبًا بِمِثْلِ تِلْكَ النَّقَاوَةِ.
- (4) وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا إِلَى جَانِبِ مُوسَى، وَكَانَا يَتَحَدَّثَانِ مَعَ يَسُوعَ.
- (5) فَهَبَّ بُطْرُسُ قَائِلًا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدِي، مَا أَجْمَلَ مَقَامَنَا هُنَا. دَعْنَا نَبْنِ ثَلَاثَ خِيَامٍ: وَاحِدَةً لَكَ، وَأُخْرَى لِمُوسَى، وَثَالِثَةً لِإِيلِيَّا.»
- (6) إِذْ لَمْ يَعِ مَا يَنْطِقُ بِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اعْتَرَاهُمْ خَوْفٌ شَدِيدٌ.
- (7) وَغَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ، وَانْطَلَقَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ مُعْلِنًا: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. إِلَيْهِ فَاسْمَعُوا!»
- (8) وَعَلَى الْفَوْرِ، نَظَرُوا حَوْلَهُمْ بِتَعَجُّبٍ، فَلَمْ يُبْصِرُوا أَحَدًا سِوَى يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ.
- (9) وَبَيْنَمَا هُمْ يَهْبِطُونَ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ بِأَلَّا يُفْشُوا لِأَحَدٍ عَمَّا شَاهَدُوهُ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُومَ ابْنُ الْإِنْسَانِ مِنْ وَسْطِ الْأَمْوَاتِ.
- (10) فَأَمْسَكُوا بِالْقَوْلِ فِي أَنْفُسِهِمْ، مُتَسَائِلِينَ: «مَاذَا يَعْنِي الْقِيَامُ مِنَ الْأَمْوَاتِ؟»
- (11) وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: «لِمَاذَا يَقُولُ الْمُعَلِّمُونَ إِنَّ إِيلِيَّا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ أَوَّلًا؟»
- (12) فَأَجَابَ مُوَضِّحًا لَهُمْ: «صَحِيحٌ أَنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي فِي الْبِدَايَةِ لِيُعِيدَ تَرْتِيبَ كُلِّ شَيْءٍ. وَلَكِنْ، كَيْفَ كُتِبَ عَنِ ابْنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ سَيُعَانِي كَثِيرًا وَيُلْقَى بِهِ الْعَارُ؟»
- (13) «لَكِنِّي أُخْبِرُكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ أَتَى فِعْلًا، وَفَعَلُوا بِهِ كُلَّ مَا شَاءُوا، كَمَا دُوِّنَ عَنْهُ.»
- (14) وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى تَلامِيذِهِ، أَبْصَرَ جَمْعًا غَفِيرًا يُحِيطُ بِهِمْ، وَمُعَلِّمِينَ يَتَجَادَلُونَ مَعَهُمْ.
- (15) وَفِي الْحَالِ، عِنْدَمَا رَأَوْهُ، اعْتَرَاهُمْ ذُهُولٌ، وَسَارَعُوا نَحْوَهُ يُحَيُّونَهُ.
- (16) فَسَأَلَ الْمُعَلِّمِينَ: «بِمَاذَا تَتَبَادَلُونَ الْحِوَارَ مَعَهُمْ؟»
- (17) فَأَجَابَ أَحَدُ الْحَاضِرِينَ قَائِلًا: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ جِئْتُكَ بِابْنِي الَّذِي يَتَلَبَّسُهُ رُوحٌ يَصْمُتُهُ.
- (18) وَكُلَّمَا سَيْطَرَ عَلَيْهِ، يَطْرَحُهُ أَرْضًا، فَيَخْرُجُ الزَّبَدُ مِنْ فِيهِ، وَيَطْحَنُ بِأَسْنَانِهِ، وَتَتَصَلَّبُ أَعْضَاؤُهُ. وَقَدْ طَلَبْتُ مِنْ تَلامِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا.»
- (19) فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَيُّهَا الْجِيلُ الْمُنْكَرُ لِلْإِيمَانِ، إِلَى مَتَى سَأُقِيمُ بَيْنَكُمْ؟ وَإِلَى مَتَى سَأَتَحَمَّلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!»
- (20) فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. وَعِنْدَمَا رَآهُ الطِّفْلُ، صَرَعَهُ الرُّوحُ فِي الْحَالِ، فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ يَتَقَلَّبُ وَيُزْبِدُ.
- (21) فَسَأَلَ وَالِدَهُ: «مُنْذُ مَتَى وَهُوَ يُعَانِي مِنْ هَذَا؟» فَأَجَابَ: «مُنْذُ صِغَرِهِ.
- (22) وَكَمْ مِنْ مَرَّةٍ أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيَقْضِيَ عَلَيْهِ. لَكِنْ إِنْ كَانَ بِاسْتِطَاعَتِكَ فِعْلُ شَيْءٍ، فَتَرَحَّمْ عَلَيْنَا وَأَغِثْنَا.»
- (23) فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «'إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ!' كُلُّ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِ.»
- (24) فَعَلَى الْفَوْرِ صَرَخَ وَالِدُ الصَّبِيِّ بِدُمُوعٍ قَائِلًا: «إِنِّي أُومِنُ يَا سَيِّدِي! فَأَعِنْ نَقْصَ إِيمَانِي!»
- (25) وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْحَشْدَ يَتَزَاحَمُ، زَجَرَ الرُّوحَ الْخَبِيثَ قَائِلًا لَهُ: «أَيُّهَا الرُّوحُ الْأَخْرَسُ الْأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلَا تَعُدْ إِلَيْهِ أَبَدًا!»
- (26) فَأَطْلَقَ صَرْخَةً وَصَرَعَهُ بِعُنْفٍ شَدِيدٍ ثُمَّ خَرَجَ. فَصَارَ الصَّبِيُّ كَمَنْ لَا حَيَاةَ فِيهِ، حَتَّى قَالَ الْكَثِيرُونَ: «لَقَدْ مَاتَ!»
- (27) لَكِنَّ يَسُوعَ أَمْسَكَ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَنَهَضَ.
- (28) وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتًا، سَأَلَهُ تَلامِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ: «لِمَاذَا عَجَزْنَا نَحْنُ عَنْ إِخْرَاجِهِ؟»
- (29) فَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا النَّوْعُ لَا يُطْرَدُ إِلَّا بِالصَّلاةِ وَالصَّوْمِ.»
- (30) وَغَادَرُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ وَاجْتَازُوا فِي الْجَلِيلِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ بِوُجُودِهِمْ.
- (31) لِأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلامِيذَهُ وَيُفْصِحُ لَهُمْ قَائِلًا: «ابْنُ الْإِنْسَانِ سَيُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْبَشَرِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ مَقْتَلِهِ سَيَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ.»
- (32) وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَوْعِبُوا الْمَقَالَ، وَخَشُوا أَنْ يَسْتَفْسِرُوا عَنْهُ.
- (33) وَوَصَلُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ. وَعِنْدَمَا كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: «فِيمَ كُنْتُمْ تَتَجَادَلُونَ بَيْنَكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ؟»
- (34) فَالْتَزَمُوا الصَّمْتَ، لِأَنَّهُمْ فِي الطَّرِيقِ كَانُوا يَتَحَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ هُوَ الْأَعْظَمُ شَأْنًا؟
- (35) فَجَلَسَ وَنَادَى الْأَثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ رَغِبَ أَحَدٌ فِي أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلَ، فَلْيَكُنْ آخِرَ الْجَمِيعِ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ.»
- (36) ثُمَّ أَخَذَ وَلَدًا صَغِيرًا وَأَوْقَفَهُ فِي وَسْطِهِمْ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ:
- (37) «مَنْ يَقْبَلُ طِفْلًا كَهَذَا بِاسْمِي، فَقَدْ قَبِلَنِي. وَمَنْ يَقْبَلُنِي، فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.»
- (38) فَأَجَابَهُ يُوحَنَّا قَائِلًا: «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا شَخْصًا يَطْرُدُ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِنَا، فَمَنَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَسِيرُ مَعَنَا.»
- (39) فَقَالَ يَسُوعُ: «لَا تَمْنَعُوهُ، فَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَصْنَعُ مُعْجِزَةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِالشَّرِّ عَلَيَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً.
- (40) لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ ضِدَّنَا فَهُوَ مَعَنَا.»
- (41) «إِنَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنْ يُسْقِيكُمْ كَأْسَ مَاءٍ لِأَنَّكُمْ تَنْتَمُونَ إِلَى الْمَسِيحِ، فَلَنْ يَخْسَرَ مُكَافَأَتَهُ.»
- (42) «وَمَنْ يُعْثِرُ أَحَدَ هَؤُلَاءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَلَوْ طُوِّقَتْ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَأُلْقِيَ فِي عُمْقِ الْبَحْرِ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ.»
- (43) «وَإِنْ جَعَلَتْكَ يَدُكَ تَسْقُطُ، فَاقْطَعْهَا. فَخَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ وَأَنْتَ نَاقِصُ الْيَدِ، مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ، فِي النَّارِ الَّتِي لَا تُخْمَدُ.»
- (44) «حَيْثُ دُودُهُمْ لَا يَمُوتُ وَالنَّارُ لَا تُطْفَأُ.»
- (45) «وَإِنْ جَعَلَتْكَ قَدَمُكَ تَسْقُطُ، فَاقْطَعْهَا. فَخَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ وَأَنْتَ أَعْرَجُ، مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ قَدَمَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ، فِي النَّارِ الَّتِي لَا تُخْمَدُ.»
- (46) «حَيْثُ دُودُهُمْ لَا يَمُوتُ وَالنَّارُ لَا تُطْفَأُ.»
- (47) «وَإِنْ جَعَلَتْكَ عَيْنُكَ تَسْقُطُ، فَاقْلَعْهَا. فَخَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَمْلَكَةَ الرَّبِّ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ النَّارِ.»
- (48) «حَيْثُ دُودُهُمْ لَا يَمُوتُ وَالنَّارُ لَا تُطْفَأُ.»
- (49) «لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ سَيُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ قُرْبَانٍ يُتْبَعُ بِمِلْحٍ.»
- (50) «الْمِلْحُ نِعْمَةٌ. لَكِنْ إِذَا فَقَدَ الْمِلْحُ طَعْمَهُ، فَبِمَاذَا سَتُعِيدُونَ إِلَيْهِ جَوْدَتَهُ؟ فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَصْلَةُ الْمِلْحِ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَعِيشُوا فِي سَلَامٍ بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ.»
1. التجلي: إعلان مجد المسيح
يُفتتح الأصحاح بكلمة يسوع الغامضة التي قالها في نهاية الأصحاح الثامن: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقَائِمِينَ هَهُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ." غالبًا ما تُفسر هذه الآية بأنها تشير إلى حدث التجلي الذي يليه مباشرة، حيث يكشف يسوع عن مجد ملكوته لبعض تلاميذه.
بعد ستة أيام، أخذ يسوع تلاميذه المقربين: بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعد بهم "إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ". هناك، حدثت ظاهرة خارقة: "وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ. وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَسْتَطِيعُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذَلِكَ." هذا التحول هو إظهار جزئي لمجد يسوع الإلهي، وكشف لاهوته.
ثم "ظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ." يمثل موسى الناموس (الشريعة)، ويمثل إيليا الأنبياء. ظهورهما مع يسوع يؤكد أن يسوع هو تتويج وتحقيق كل من الناموس والأنبياء. حاول بطرس، في ذهوله وخوفه، أن يتصرف بقوله: "يَا سَيِّدُ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً." يشير مرقس إلى أن بطرس "لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ، إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ".
ثم "وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. وَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا!" هذه الكلمات هي نفس الكلمات التي قيلت عند معمودية يسوع، وهي تأكيد إلهي واضح على هوية يسوع بصفته ابن الله الحبيب، وتوجيه للتلاميذ بضرورة الاستماع إليه وإطاعته وحده. بعد ذلك، اختفى موسى وإيليا، ووجدوا يسوع وحده معهم.
عند نزولهم من الجبل، "أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُخْبِرُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ." هذا جزء من "سر المسيح" في إنجيل مرقس. حفظ التلاميذ الكلمة لأنفسهم، لكنهم تساءلوا عن معنى "القيام من الأموات". وسألوه أيضًا عن مجيء إيليا أولًا، وهو اعتقاد يهودي تقليدي قبل مجيء المسيح. فأوضح يسوع أن إيليا "قَدْ جَاءَ" بالفعل (مشيرًا إلى يوحنا المعمدان)، وأنه عانى وتم رفضه، تمامًا كما سيعاني ابن الإنسان ويُرفض. هذا الربط بين مجيء يوحنا المعمدان وآلامه بآلام المسيح المنتظر يوضح خطة الله الفدائية.
2. شفاء الصبي الممسوس: عجز الإيمان وحاجة الصلاة
عندما نزل يسوع والتلاميذ من الجبل، وجدوا جمعًا كبيرًا حول باقي التلاميذ، وكتبة يحاورونهم. عندما رأى الجمع يسوع، "تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا إِلَيْهِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ". سأل يسوع الكتبة عن سبب حوارهم، فأجاب واحد من الجمع أن لديه ابنًا "بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ" (أي روح يجعله لا يتكلم)، ويسبب له نوبات صرع عنيفة (يُزبِد، يصر بأسنانه، يَيْبَس). وقد أحضره إلى التلاميذ ليخرجوا الروح منه، "فَلَمْ يَقْدِرُوا."
هذا العجز من قبل التلاميذ يظهر فشلهم في ممارسة السلطان الذي أعطاهم إياه يسوع سابقًا. أجاب يسوع بأسى: "أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!" هذا التوبيخ لم يكن موجهًا فقط للتلاميذ، بل للجيل كله الذي يفتقر إلى الإيمان.
عندما أحضروا الصبي، صرعه الروح بعنف قبل أن يُشفيه يسوع، فتمردغ الصبي وأزبَد. سأل يسوع الأب عن مدة معاناة ابنه، فأخبره أنها منذ الصغر، وأن الروح "أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ". ثم توسل الأب بيأس: "لَكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا، فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا."
جاء رد يسوع الحاسم الذي يصحح مفهوم الأب: "إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ! كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ." لم تكن المشكلة في قدرة يسوع، بل في إيمان الأب. على الفور، صرخ أبو الولد بدموع: "أَنَا أُومِنُ يَا سَيِّدُ! فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي!" هذا الاعتراف الصادق بضعف الإيمان مع الرغبة في النمو فيه هو مفتاح الاستجابة.
عندما رأى يسوع أن الجمع يتراكضون (ربما ليروا ما يحدث)، "انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلًا لَهُ: أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَبَدًا!" فصرخ الروح وصارع الصبي بشدة قبل أن يخرج، حتى بدا الصبي كالميت. لكن يسوع "لَزِمَهُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ."
في البيت، سأل التلاميذ يسوع على انفراد: "لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟" فأجاب يسوع بوضوح: "هَذَا الْجِنْسُ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ." هذا يشير إلى أن بعض قوى الشر تتطلب قوة روحية أعمق، لا تأتي إلا بالصلاة (اعتمادًا على الله) والصوم (التكريس والتركيز الروحي). هذا درس مهم للتلاميذ حول اعتمادهم على الله لا على قوتهم الذاتية.
3. التنبؤ الثاني بالآلام: استمرار عدم فهم التلاميذ
بعد هذا الحدث، خرج يسوع وتلاميذه واجتازوا في الجليل، ولم يرد يسوع أن يعلم أحد بذلك. السبب هو أنه كان "يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ."
هذا هو التنبؤ الثاني الصريح ليسوع بآلامه وموته وقيامته، بعد الأول في الأصحاح الثامن. ومع ذلك، "وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ." على الرغم من رؤيتهم لمجده في التجلي وسلطانه على الشياطين، إلا أنهم ما زالوا غير قادرين على استيعاب فكرة المسيح المتألم. كانت توقعاتهم لمسيح ملك منتصر تعمي بصيرتهم عن فهم طريق الصليب.
4. تعليمات حول التواضع وعدم العثرة: صفات تلميذ المسيح
عندما جاءوا إلى كفرناحوم، وفي البيت، سألهم يسوع: "بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَحَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟" فسكتوا، "لأَنَّهُمْ فِي الطَّرِيقِ تَحَاوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ هُوَ أَعْظَمُ؟" هذا يكشف عن استمرار تفكيرهم الدنيوي، وسعيهم للمجد والمكانة في ملكوت أرضي.
فجلس يسوع ونادى الاثني عشر وقال لهم: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ." هذا هو المبدأ الأساسي للملكوت: العظمة الحقيقية تكمن في التواضع والخدمة. لكي يوضح ذلك، "أَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ، ثُمَّ احْتَضَنَهُ" وقال لهم: "مَنْ قَبِلَ وَاحِدًا مِنْ مِثْلِ هَؤُلاَءِ الأَوْلاَدِ بِاسْمِي، فَقَدْ قَبِلَنِي. وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي." فالأطفال في ذلك الوقت كانوا يُعتبرون بلا قيمة أو مكانة، وقبولهم يعني قبول التواضع وعدم الأهمية في عيون العالم، وهو ما يرضي الله.
ثم يثير يوحنا سؤالًا: "يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا." يعكس هذا السؤال تفكيرًا ضيقًا واحتكاريًا لدى التلاميذ. أجاب يسوع: "لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعًا أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرًّا. لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا." هذا درس مهم في الشمولية والبعد عن التعصب: إذا كان أحدهم يعمل بقوة الله باسم يسوع، حتى لو لم يكن جزءًا من الدائرة الضيقة للتلاميذ، فيجب عدم منعه، لأن عمله يخدم قضية المسيح. ويؤكد يسوع على أن حتى أبسط عمل خير يُقدم باسمه، مثل "سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي"، لا يضيع أجره.
ثم ينتقل يسوع إلى تحذير شديد اللهجة حول العثرة: "وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ." "الصغار المؤمنين" هنا يشير إلى البسطاء والمتواضعين في الإيمان، وليس فقط الأطفال. تسبب العثرة لهم خطير جدًا.
ثم يقدم يسوع تعليمًا رمزيًا حول التضحية الجذرية لتجنب الخطية والعثرة: "وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا... وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا... وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا." هذه ليست دعوة حرفية لتشويه الجسد، بل هي دعوة إلى الجدية القصوى في التعامل مع الخطية التي قد تقود الإنسان إلى "جهنم، إلى النار التي لا تُطفأ، حيث دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ." هذا يُبرز خطورة الخطية وعواقبها الأبدية.
5. الملح والسلام: رسالة للمؤمنين
يختتم يسوع هذا القسم بتعليم عن "الملح": "لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ." الملح كان يُستخدم للحفظ ومنع الفساد، وكذلك في الذبائح كرمز للعهد (لاويين 2: 13). والنار هنا قد تشير إلى التجارب أو التطهير.
ثم يقول: "اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ فَلْيَكُنْ لَكُمْ مِلْحٌ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا." هذا يُشير إلى أن تلاميذ يسوع يجب أن يكونوا "ملح الأرض" (متى 5: 13)، أي يحفظوا العالم من الفساد ويُعطوا طعمًا للحياة. يجب أن يحتفظوا بنقاوتهم وتأثيرهم، وأن يكونوا في سلام مع بعضهم البعض، خاصة بعد نقاشهم حول من هو الأعظم. السلام الداخلي والسلام مع الآخرين ضروريان للتلمذة الصادقة.
خاتمة: الأصحاح التاسع: مجد المسيح وواجب التلميذ
يُقدم الأصحاح التاسع من إنجيل مرقس رؤية متكاملة لجوهر المسيحية:
- مجده الإلهي: التجلي يُعلن لاهوت يسوع وسلطانه المطلق، مما يثبت أنه ابن الله الذي يجب الاستماع إليه.
- سلطانه على الشر وعجز الإيمان: قصة شفاء الصبي الممسوس تُبرز قوة يسوع في طرد أقوى الشياطين، وتُسلط الضوء على أن الإيمان والصلاة هما مفتاح القوة الروحية في مواجهة الشر.
- طريق الصليب: استمرار يسوع في التنبؤ بآلامه وموته، على الرغم من عدم فهم التلاميذ، يؤكد على أن هذا هو طريق الخلاص.
- جوهر التلمذة: التعليم حول التواضع (قبول الأطفال)، والشمولية (عدم منع من يعمل باسمه)، والجدية في التعامل مع الخطية (قطع الأعضاء العاثرة)، وأهمية السلام والنقاء (الملح)، تُحدد المبادئ الأساسية للحياة المسيحية.
هذا الأصحاح يدعونا إلى الإيمان الكامل بمجد يسوع وسلطانه، ويدعونا أيضًا إلى التفكير بعمق في تبعيتنا له. هل نحن مستعدون للتخلي عن رغبتنا في المجد البشري وقبول طريق التواضع والخدمة، والتعامل بجدية مع الخطية في حياتنا، والسعي للسلام والنقاء؟