تفسير إنجيل متى الإصحاح الثالث الفصل 3

إنجيل متى الإصحاح 3 الفصل الثالث
 تفسير إنجيل متى الإصحاح الثالث الفصل 3


يُعتبر إنجيل متى من أهم الأناجيل الأربعة في العهد الجديد، لما يحمله من بُعد لاهوتي وتاريخي عميق، حيث يُقدّم يسوع المسيح بوصفه الملك الموعود الذي حقق النبوات القديمة. وفي الإصحاح الثالث من هذا الإنجيل، نلتقي بشخصية مركزية في التحضير لمجيء المسيح وهي يوحنا المعمدان، الذي كان الصوت الصارخ في البرية يُهيّئ الطريق للرب. يُعد هذا الإصحاح نقطة تحول هامة في السرد الإنجيلي، إذ يقدم أولى علامات بداية خدمة يسوع العلنية. سنتناول في هذا المقال تفسيرًا شاملاً ومنسقًا لإنجيل متى الإصحاح الثالث، مع إبراز الرسائل اللاهوتية والروحية العميقة فيه.


شاهد ايضا:

هل الكتاب المقدس هو نفسه الإنجيل؟
ما هو تعريف الكتاب المقدس؟
ما هو العهد الجديد؟
تعرف على ترتيب أسفار العهد الجديد




تفسير إنجيل متى الإصحاح الثالث الفصل 3



  • (1) فِي تِلْكَ الآوِنَةِ، أَقْبَلَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، مُنَادِيًا بِبِشَارَتِهِ فِي الصَّحْرَاءِ الْيَهُودِيَّةِ.
  • (2) وَكَانَ صَوْتُهُ يَدْعُو: «تُوبُوا، فَإِنَّ مَمْلَكَةَ السَّمَاءِ قَدِ دَنَتْ.»
  • (3) هَذَا هُوَ بِالذَّاتِ الَّذِي تَحَدَّثَ عَنْهُ النَّبِيُّ إِشَعْيَاءُ قَائِلًا: «صَوْتٌ يُدَوِّي فِي الْقَفْرِ: هَيِّئُوا سَبِيلَ الرَّبِّ، اجْعَلُوا دُرُوبَهُ مُسْتَقِيمَةً.»
  • (4) وَلَقَدْ كَانَ يُوحَنَّا يَرْتَدِي ثَوْبًا مِنْ وَبَرِ الْإِبِلِ، وَيَشُدُّ خَصْرَهُ بِحِزَامٍ جِلْدِيٍّ؛ أَمَّا قُوتُهُ فَكَانَ مِنَ الْجَرَادِ وَعَسَلِ الْبَرِّيَّةِ.
  • (5) عِنْدَئِذٍ، تَوَافَدَ إِلَيْهِ سُكَّانُ أُورُشَلِيمَ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْيَهُودِيَّةِ، وَكُلُّ مَنْ يُقِيمُ حَوْلَ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ.
  • (6) وَانْغَمَسُوا فِي مِيَاهِ الْأُرْدُنِّ عَلَى يَدِهِ، مُعْلِنِينَ تَوْبَتَهُمْ عَنِ خَطَايَاهُمْ.
  • (7) فَلَمَّا شَاهَدَ جَمْعًا غَفِيرًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَقْصِدُونَ مَعْمُودِيَّتَهُ، نَهَرَهُمْ قَائِلًا: «يَا سُلَالَةَ الْأَفَاعِي، مَنْ نَبَّهَكُمْ لِتَفِرُّوا مِنْ سَخَطِ الرَّبِّ الْقَادِمِ؟»
  • (8) «إِذَنْ، أَظْهِرُوا أَعْمَالًا تَبْرُزُ صِدْقَ تَوْبَتِكُمْ.»
  • (9) «وَلَا يَخْطُرْ بِبَالِكُمْ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبٌ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لِلهِ الْقُدْرَةُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَ أَبْنَاءً لِإِبْرَاهِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ.»
  • (10) «وَهَا هِيَ الْفَأْسُ قَدْ وُضِعَتْ عِنْدَ جُذُورِ الْأَشْجَارِ؛ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تُثْمِرُ جَيِّدًا سَتُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ.»
  • (11) «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِالْمَاءِ دَعْوَةً لِلتَّوْبَةِ، لَكِنَّ الْآتِيَ بَعْدِي هُوَ أَعْظَمُ قُوَّةً مِنِّي، حَتَّى إِنِّي لَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيَغْمِسُكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ وَفِي لَهِيبِ النَّارِ.»
  • (12) «فَفِي يَدِهِ رَفْشُهُ لِيُنَقِّيَ بَيْدَرَهُ بِكَمَالٍ؛ سَيَجْمَعُ الْقَمْحَ النَّقِيَّ إِلَى مَخَازِنِهِ، أَمَّا التِّبْنُ فَسَيَحْرِقُهُ بِنَارٍ لَا تَخْبُو.»
  • (13) عِنْدَئِذٍ، قَصَدَ يَسُوعُ مِنْ الْجَلِيلِ إِلَى الْأُرْدُنِّ، إِلَى يُوحَنَّا، لِيَنَالَ الْمَعْمُودِيَّةَ مِنْهُ.
  • (14) لَكِنَّ يُوحَنَّا جَاهَدَ لِمَنْعِهِ قَائِلًا: «أَنَا فِي حَاجَةٍ لِأَنْ أَتَعَمَّدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تُقْبِلُ إِلَيَّ؟»
  • (15) فَأَجَابَهُ يَسُوعُ قَائِلًا: «دَعِ الْأَمْرَ الْآنَ، فَهَكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُتَمِّمَ كُلَّ مَا هُوَ عَدْلٌ.» عِنْدَئِذٍ سَمَحَ لَهُ.
  • (16) وَلَمَّا تَعَمَّدَ يَسُوعُ، صَعِدَ فَوْرًا مِنَ الْمَاءِ، وَهَا هِيَ السَّمَاوَاتُ قَدِ انْشَقَّتْ أَمَامَهُ، وَشَاهَدَ رُوحَ اللهِ يَنْزِلُ كَشَبَحِ حَمَامَةٍ وَيَحُطُّ عَلَيْهِ.
  • (17) وَصَوْتٌ مِنَ الْأَعَالِي أَطْلَقَ قَوْلًا: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ، الَّذِي بِهِ ارْتَاحَتْ نَفْسِي.»






يوحنا المعمدان: المُرسل لإعداد الطريق للمسيح


في بداية الإصحاح الثالث، يُسلّط الضوء على شخصية يوحنا المعمدان، الذي يُقدّم باعتباره نبيًّا عظيمًا جاء في روح إيليا ليُعد طريق الرب. هذه البداية تحمل بُعدًا نبوئيًا مهمًا، حيث يقتبس متى النبي إشعياء قائلاً: "صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، قوموا سبله" (متى 3:3). هذا الاقتباس لا يأتي صدفة، بل هو إعلان مباشر بأن يوحنا يُمثل الحلقة الواصلة بين العهد القديم والعهد الجديد.

الملابس الخشنة التي كان يرتديها يوحنا (من وبر الإبل) وطعامه البسيط (جراد وعسل بري) تشير إلى حياة الزهد والتكريس الكامل لله، مما يجعله مثالاً حيًّا للتوبة الحقيقية والعودة إلى الله.




دعوة يوحنا إلى التوبة: مفتاح الدخول إلى ملكوت السماوات


ركز يوحنا المعمدان على التوبة كشرط أساسي للاقتراب من الله، حيث قال: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" (متى 2:3). هذه الدعوة كانت جذريّة في مضمونها، إذ لم تكن مجرد ندم عاطفي، بل كانت تغييرًا كاملاً في الفكر والسلوك. التوبة الحقيقية تعني ترك الخطية والسعي إلى حياة جديدة تسودها الطهارة والعدل.

أتى إليه الناس من أورشليم وكل اليهودية والمنطقة المحيطة بالأردن، معترفين بخطاياهم، وكان يُعمدهم في نهر الأردن. هذه الصورة القوية تُظهر مدى تأثير دعوته، وعمق الحاجة الروحية التي كان يشعر بها الشعب في ذلك الزمن.




رمزية المعمودية في نهر الأردن


تُعد المعمودية التي قدمها يوحنا علامة تطهير واستعداد لاستقبال المخلّص. ورغم أنها لم تكن معمودية الروح القدس، إلا أنها شكّلت انتقالًا رمزيًا من حياة الخطية إلى حياة التوبة.

نهر الأردن له مكانة خاصة في الذاكرة اليهودية، فقد عَبَرَه الشعب بقيادة يشوع إلى أرض الموعد، واليوم يُستخدم مجددًا كوسيلة للعبور الروحي من عبودية الخطية إلى نعمة الله. المعمودية هنا ليست مجرد طقس ديني، بل فعل إيمان حيّ يُعبّر عن الولادة الجديدة.




مواجهة يوحنا للفرّيسيين والصدوقيين: الدعوة إلى التوبة الحقيقية لا الشكلية


من أبرز مشاهد هذا الإصحاح مواجهة يوحنا للفرّيسيين والصدوقيين، الذين أتوا ليروه. لم يُرحب بهم كغيرهم، بل قال لهم: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟" (متى 7:3). هذه الكلمات القاسية لم تكن ازدراءً شخصيًا، بل تحذيرًا من الرياء الديني.

يوحنا نبّههم إلى أن التوبة لا تُقاس بالمظاهر أو الانتماء العرقي (مثل التباهي بكونهم أبناء إبراهيم)، بل تُقاس بثمارها. قال: "اصنعوا ثمرًا يليق بالتوبة" (متى 8:3)، وهي دعوة صريحة إلى أن الإيمان الحقيقي لا يُفصل عن السلوك القويم.




نبوة يوحنا عن المسيح الآتي: المُعمد بالروح والنار


في الآيات الأخيرة من الإصحاح، يُعلن يوحنا عن مجيء من هو أعظم منه، والذي سيُعمّد بالروح القدس والنار. قال: "أنا أُعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلًا أن أحمل حذاءه" (متى 11:3). هنا يُقدّم المسيح بوصفه الديّان والمخلّص، الذي يحمل في طبيعته السلطان الإلهي.

المعمودية بالروح والنار تشير إلى التطهير الكامل والقوة الداخلية التي يمنحها الروح القدس، والنار ترمز إلى الدينونة والتجديد في آن واحد. بهذه النبوة، ينقل يوحنا التركيز من نفسه إلى يسوع المسيح، ويُعلن بوضوح أن زمن الخلاص قد اقترب.




معمودية يسوع: إعلان الظهور العلني وبداية الخدمة


الذروة اللاهوتية في هذا الإصحاح تتمثل في مشهد معمودية يسوع. جاء يسوع من الجليل إلى يوحنا ليعتمد منه، ورغم تردد يوحنا واعترافه بأنه بحاجة لأن يعتمد من يسوع، إلا أن الرب أصرّ قائلاً: "اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمّل كل بر" (متى 15:3).

هذه المعمودية لم تكن بسبب خطية في حياة يسوع، بل كانت بمثابة إعلان علني لبدء خدمته، وتضامن مع البشرية، وتتميم للبر. في تلك اللحظة، انفتحت السماوات، ونزل الروح القدس مثل حمامة واستقر عليه، وجاء صوت من السماء قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت" (متى 17:3).




أهمية الروح القدس في بداية خدمة المسيح


نزول الروح القدس على يسوع في لحظة المعمودية له دلالة روحية عظيمة. فهو لا يعني أن يسوع لم يكن يملك الروح قبلًا، بل يُظهر لنا أن خدمته ستتم بقيادة الروح القدس وبقوته. كذلك، فإن استقرار الروح عليه كحمامة يرمز إلى السلام، والطهارة، والحضور الإلهي الهادئ.

هذا الحدث يُعد تجليًا للثالوث الأقدس: الآب الذي يُعلن، الابن الذي يعتمد، والروح القدس الذي ينزل. وهو واحد من النصوص النادرة في العهد الجديد التي تُظهر الأقانيم الثلاثة بشكل واضح ومتزامن.





الدروس الروحية واللاهوتية من هذا الإصحاح



  1. التوبة بداية الطريق إلى الله: لا يمكن لأي إنسان أن يقترب من الله دون توبة حقيقية تلمس القلب وتُغيّر السلوك.
  2. المعمودية ليست نهاية، بل بداية: فالمعمودية تُشكّل بداية لعهد جديد مع الله، ولكنها تتطلب استمرارًا في الإيمان والسلوك المقدّس.
  3. الإيمان لا يُقاس بالوراثة أو المعرفة، بل بالثمار: يوحنا نبّه قادة الدين إلى أن لا يتكلوا على نسبهم أو مظهرهم الديني، بل أن يُنتجوا ثمارًا حقيقية تُرضي الله.
  4. المسيح هو المركز، لا الخادم: يوحنا يُعطينا مثالًا في التواضع، حيث وجّه الأنظار إلى يسوع وليس إلى نفسه.
  5. معمودية المسيح إعلان عن رسالته وهويته الإلهية: صوت الآب من السماء يؤكد أن يسوع هو الابن الحبيب، والمُرسل لخلاص العالم.





في الختام، يمثل الإصحاح الثالث من إنجيل متى مرحلة محورية في سرد قصة الخلاص، حيث يلتقي القديم بالجديد، ويظهر يوحنا كصوت صارخ يُهيّئ الطريق للرب. دعوته إلى التوبة ومعمودية يسوع في نهر الأردن تُظهران العمق الروحي واللاهوتي لهذا النص. ولمن يتأمل في هذا الإصحاح بعين الإيمان، سيجد دعوة متجددة لتوبة حقيقية، وسلوكٍ مستقيم، وانتظارٍ واثق للملكوت الذي بدأ بيسوع المسيح، ابن الله الحي.

إن تفسير إنجيل متى الإصحاح الثالث لا يقتصر على شرحه التاريخي واللغوي، بل يتعداه ليكون صوتًا حيًّا يدعونا نحن أيضًا لأن نُعدّ طريق الرب في قلوبنا، ونكون شهودًا حقيقيين للمسيح في هذا العصر.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url