تفسير إنجيل متى الأصحاح الرابع عشر الفصل 14

ما معنى إنجيل متى الإصحاح 14؟
تفسير إنجيل متى الأصحاح الرابع عشر الفصل 14



يأخذنا القديس متى في الأصحاح الرابع عشر في رحلة مليئة بالتناقضات الصارخة؛ فبينما تسيطر أجواء الموت والظلم في قصور الملوك الأرضيين (هيرودس)، تتجلى قدرة وهيبة الملك السماوي (يسوع) في البرية وعوق البحر. إنه أصحاح يكشف عن وجهين للعالم: وجه قبيح يقتل الأنبياء لإسكات صوت الحق، ووجه مشرق يكسر الخبز للجياع ويمشي فوق المستحيل لإنقاذ الخائفين. هنا نرى يسوع ليس فقط كمعلم، بل كسيد للطبيعة وراعٍ حنون يلمس احتياجاتنا الجسدية والروحية في آن واحد.




شاهد أيضا:


تفسير إنجيل متى الأصحاح 14: بين مأساة القصر ومعجزة البحر


  • (1) فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، وَصَلَتْ أَخْبَارُ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يَصْنَعُهَا يَسُوعُ إِلَى مَسَامِعِ هِيرُودُسَ، حَاكِمِ الْمَنْطِقَةِ.
  • (2) فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَقَالَ لِحَاشِيَتِهِ: «لاَ شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ! لَقَدْ عَادَ إِلَى الْحَيَاةِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ تَظْهَرُ فِيهِ هَذِهِ الْقُوَّاتُ الْخَارِقَةُ».
  • (3) وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هِيرُودُسَ قَدْ أَلْقَى الْقَبْضَ عَلَى يُوحَنَّا وَكَبَّلَهُ بِالأَغْلالِ فِي السِّجْنِ، إِرْضَاءً لِهِيرُودِيَّا، زَوْجَةِ أَخِيهِ فِيلُبُّسَ، الَّتِي تَزَوَّجَهَا هُوَ.
  • (4) فَقَدْ كَانَ يُوحَنَّا يُوَاجِهُهُ بِشَجَاعَةٍ وَيَقُولُ لَهُ بِاسْتِمْرَارٍ: «إِنَّ الشَّرِيعَةَ لاَ تُحَلِّلُ لَكَ أَنْ تَتَّخِذَهَا زَوْجَةً».
  • (5) وَرَغِمَ رَغْبَةِ هِيرُودُسَ الشَّدِيدَةِ فِي قَتْلِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَخْشَى رَدَّ فِعْلِ الْجَمَاهِيرِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ.
  • (6) وَحِينَ أَقَامَ هِيرُودُسُ احْتِفَالاً صَاخِبًا بِذِكْرَى مَوْلِدِهِ، قَدَّمَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا رَقْصَةً فِي وَسَطِ الْحَاضِرِينَ نَالَتْ إِعْجَابَ هِيرُودُسَ وَاسْتِحْسَانَهُ.
  • (7) فَانْدَفَعَ يَعِدُهَا أَمَامَ الْجَمِيعِ، مُقْسِمًا أَنْ يُلَبِّيَ لَهَا أَيَّ طَلَبٍ تَطْلُبُهُ مَهْمَا كَانَ.
  • (8) فَبِإِيعَازٍ مِنْ أُمِّهَا الْحَاقِدَةِ، قَالَتْ لَهُ: «أُرِيدُكَ أَنْ تُقَدِّمَ لِي الآنَ، عَلَى طَبَقٍ، رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ».
  • (9) فَوَقَعَ الْحُزْنُ وَالاضْطِرَابُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَكِنْ بِسَبَبِ الْقَسَمِ الَّذِي قَطَعَهُ، وَخَجَلاً مِنَ الضُّيُوفِ الْجَالِسِينَ مَعَهُ، أَصْدَرَ أَمْرَهُ بِتَنْفِيذِ طَلَبِهَا.
  • (10) فَأَرْسَلَ السَّيَّافَ إِلَى السِّجْنِ، حَيْثُ تَمَّ قَطْعُ رَأْسِ يُوحَنَّا.
  • (11) وَجِيءَ بِالرَّأْسِ عَلَى طَبَقٍ وَسُلِّمَ لِلْفَتَاةِ، الَّتِي حَمَلَتْهُ بِدَوْرِهَا وَقَدَّمَتْهُ لأُمِّهَا.
  • (12) بَعْدَ ذَلِكَ، جَاءَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَأَخَذُوا جُثْمَانَهُ وَوَارَوْهُ الثَّرَى، ثُمَّ ذَهَبُوا لِيَنْقُلُوا الْخَبَرَ الْمُفْجِعَ إِلَى يَسُوعَ.
  • (13) وَعِنْدَمَا سَمِعَ يَسُوعُ بِالنَّبَأِ، غَادَرَ الْمَكَانَ فِي قَارِبٍ مُنْفَرِدًا إِلَى مَنْطِقَةٍ خَالِيَةٍ لِيَخْتَلِيَ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّ الْجُمُوعَ عَرَفُوا وِجْهَتَهُ، فَتَبِعُوهُ سَيْرًا عَلَى الأَقْدَامِ مِنَ الْمُدُنِ الْمُجَاوِرَةِ.
  • (14) وَمَا إِنْ نَزَلَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّ وَرَأَى تِلْكَ الْحُشُودَ الْغَفِيرَةَ، حَتَّى تَحَرَّكَتْ أَحْشَاؤُهُ بِالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَبَدَأَ يَشْفِي الْمَرْضَى بَيْنَهُمْ.
  • (15) وَحِينَ أَقْبَلَ الْمَسَاءُ، دَنَا مِنْهُ التَّلاَمِيذُ وَقَالُوا: «الْمَكَانُ هُنَا مُقْفِرٌ وَالْوَقْتُ قَدْ تَأَخَّرَ جِدًّا، اصْرِفِ النَّاسَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْقُرَى الْمُحِيطَةِ وَيَشْتَرُوا لأَنْفُسِهِمْ طَعَامًا».
  • (16) فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «لاَ دَاعِيَ لِذَهَابِهِمْ، قَدِّمُوا أَنْتُمْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ».
  • (17) فَرَدُّوا عَلَيْهِ بِدَهْشَةٍ: «لاَ نَمْلِكُ هُنَا سِوَى خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ فَقَطْ!».
  • (18) فَقَالَ لَهُمْ: «أَحْضِرُوهَا إِلَيَّ هُنَا».
  • (19) ثُمَّ أَمَرَ الْجُمُوعَ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْعُشْبِ. وَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ شَاكِرًا وَمُبَارِكًا، ثُمَّ كَسَّرَ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُ لِلتَّلاَمِيذِ لِيُوَزِّعُوهُ عَلَى النَّاسِ.
  • (20) فَأَكَلَ الْجَمِيعُ حَتَّى الشَّبَعِ، وَجَمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْكِسَرِ الْمُتَبَقِّيَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءَةً.
  • (21) وَكَانَ عَدَدُ الآكِلِينَ حَوَالَيْ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ، دُونَ احْتِسَابِ النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ.
  • (22) وَمُبَاشَرَةً بَعْدَ ذَلِكَ، أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ بِرُكُوبِ الْقَارِبِ وَسَبْقِهِ إِلَى الضَّفَّةِ الْمُقَابِلَةِ، رَيْثَمَا يَقُومُ هُوَ بِصَرْفِ الْجُمُوعِ.
  • (23) وَبَعْدَ أَنْ وَدَّعَ الْجُمُوعَ، صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ لِيُصَلِّيَ، وَحَلَّ الظَّلاَمُ وَهُوَ لاَ يَزَالُ هُنَاكَ مُنْفَرِدًا.
  • (24) فِي تِلْكَ الأَثْنَاءِ، كَانَ الْقَارِبُ قَدْ ابْتَعَدَ فِي وَسَطِ الْبُحَيْرَةِ، وَالأَمْوَاجُ تَضْرِبُهُ بِعُنْفٍ لأَنَّ الرِّيَاحَ كَانَتْ مُعَاكِسَةً.
  • (25) وَقُبَيْلَ الْفَجْرِ، فِي الْهَزِيعِ الرَّابِعِ، جَاءَ يَسُوعُ إِلَيْهِمْ سَائِرًا فَوْقَ مِيَاهِ الْبَحْرِ.
  • (26) فَلَمَّا رَآهُ التَّلاَمِيذُ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، دَبَّ الذُّعْرُ فِي قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّهُ شَبَحٌ، فَصَرَخُوا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ.
  • (27) فَتَحَدَّثَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ فَوْرًا لِيُطَمْئِنَهُمْ قَائِلاً: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ، لاَ تَخَافُوا».
  • (28) فَهَتَفَ بُطْرُسُ قَائِلاً: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ هَذَا أَنْتَ حَقًّا، فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ مَاشِيًا عَلَى الْمَاءِ».
  • (29) فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «تَعَالَ». فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ الْقَارِبِ وَسَارَ عَلَى الْمَاءِ مُتَّجِهًا نَحْوَ يَسُوعَ.
  • (30) وَلَكِنْ عِنْدَمَا شَعَرَ بِشِدَّةِ الرِّيحِ خَافَ، وَبَدَأَ يَغْرَقُ فَصَرَخَ: «يَا رَبُّ، نَجِّنِي!».
  • (31) فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ فِي الْحَالِ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ مُعَاتِبًا بِلُطْفٍ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا دَخَلَ الشَّكُّ إِلَى قَلْبِكَ؟».
  • (32) وَمَا إِنْ صَعِدَا إِلَى الْقَارِبِ حَتَّى هَدَأَتِ الرِّيحُ تَمَامًا.
  • (33) فَسَجَدَ لَهُ جَمِيعُ مَنْ فِي الْقَارِبِ خَاشِعِينَ وَقَالُوا: «أَنْتَ بِالْحَقِيقَةِ ابْنُ اللهِ!».
  • (34) وَبَعْدَمَا عَبَرُوا الْبُحَيْرَةَ، وَصَلُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ.
  • (35) فَتَعَرَّفَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَنْطِقَةِ، وَأَرْسَلُوا الرُّسُلَ إِلَى كُلِّ الْبِلادِ الْمُجَاوِرَةِ، فَجَاءُوا إِلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمَرْضَى.
  • (36) وَكَانُوا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَسْمَحَ لَهُمْ فَقَطْ بِلَمْسِ طَرَفِ ثَوْبِهِ، وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ كَانَ يَنَالُ الشِّفَاءَ التَّامَّ.




مأساة القصر: عندما يرقص الشر على دماء الأبرياء


تبدأ الأحداث بمشهد تراجيدي داخل قصر هيرودس، حيث يختلط الترف بالجريمة. لم يكن سجن يوحنا المعمدان مجرد إجراء سياسي، بل كان محاولة بائسة لإسكات صوت الضمير الذي كان يصرخ في وجه الملك: "لا يحل لك". يصور لنا الإنجيل ضعف هيرودس الذي رغم سلطته، كان عبداً لشهواته وخوفه من آراء ضيوفه، مما دفعه لارتكاب جريمة بشعة بقطع رأس أعظم مواليد النساء.

هذا المشهد الدموي يضعنا أمام حقيقة قاسية: صوت الحق غالباً ما يكون مكلفاً، والظلم قد يبدو منتصراً للحظات. لكن اللافت هو رد فعل تلاميذ يوحنا؛ فقد حملوا الجسد وذهبوا ليخبروا يسوع. في أوقات الفجيعة والألم، الملاذ الوحيد الآمن هو الذهاب إلى المسيح وطرح الأحمال أمامه، فهو الوحيد القادر على تحويل المأساة إلى رجاء.


من القليل إلى الفيض: معجزة الخبز الإلهي


على النقيض من قسوة هيرودس، نرى حنان يسوع. رغم رغبته في الاختلاء للصلاة والحزن، إلا أنه عندما رأى الجموع "تحنن عليهم". هنا تتجلى المعجزة ليس فقط في تكثير الخبز، بل في تغيير منظور التلاميذ. هم رأوا المشكلة (الوقت متأخر، المكان قفر، الطعام قليل)، أما يسوع فرأى الفرصة لإعلان مجد الله.

عبارة "أعطوهم أنتم ليأكلوا" هي تحدٍ روحي لكل خادم. الله لا يطلب منا إمكانيات خارقة، بل يطلب أن نضع "الخمسة أرغفة والسمكتين" التي نملكها بين يديه. عندما نرفع نظرنا نحو السماء ونشكر، تتحول مواردنا المحدودة إلى بركة تشبع الآلاف ويفيض منها. الدرس العميق هنا هو أن البركة لا تأتي من الكثرة، بل من يد الرب التي تكسر وتعطي.


وسط العاصفة: الإيمان الذي يمشي فوق المستحيل


تعتبر حادثة المشي على الماء من أعمق الدروس في مدرسة الإيمان. أرسلهم يسوع في السفينة وهو يعلم أن العاصفة قادمة، فالله أحياناً يسمح بالعواصف ليس ليغرقنا، بل ليعلن لنا عن ذاته بطريقة جديدة. في الهزيع الرابع، أي في أحلك أوقات الليل واليأس، جاء إليهم ماشياً فوق سبب خوفهم (البحر الهائج).

بطرس هنا يمثل كل واحد منا؛ يمتلك الجرأة ليخطو فوق الماء مادام نظره مثبتاً على يسوع، لكنه يغرق بمجرد أن ينظر للرياح. صرخته "يا رب نجني" هي الصلاة الأصدق التي لا يرفضها الله أبداً. العبرة ليست في عدم وجود عواصف في حياتنا، بل في وجود "يد ممدودة" تنتشلنا فوراً عندما تخوننا شجاعتنا. السجود في النهاية كان اعترافاً بأن من يملك سلطاناً على الطبيعة هو حقاً ابن الله.


لمسة الشفاء: يكفي أن نؤمن


يختتم الأصحاح بمشهد بديع في أرض جنيسارت، حيث نرى إيماناً بسيطاً وعميقاً في آن واحد. لم يطلبوا نقاشاً أو جدلاً، بل طلبوا فقط "لمس هدب ثوبه". هذا التلامس بالإيمان هو سر القوة المسيحية.

الجموع هنا تعلمنا درساً في الإلحاح واليقين؛ فالشفاء متاح للجميع، لكنه يتطلب خطوة اقتراب. سواء كنا في قصر هيرودس المظلم، أو في عرض البحر الهائج، أو مرضى في جنيسارت، يبقى المسيح هو محور الخلاص ومنبع الحياة الذي لا ينضب.


خلاصة الأصحاح الرابع عشر


الضمير الحي: لا تخف من قول الحق حتى لو كان الثمن باهظاً، فصوت الضمير هو صوت الله في داخلك.

قوة البركة: لا تحتقر إمكانياتك البسيطة؛ ضعها بين يدي المسيح وهو كفيل بتحويلها لفيض يخدم الكثيرين.

تثبيت النظر: سر السير فوق المشاكل (الأمواج) ليس في خفة وزنك، بل في تثبيت نظرك على المسيح وعدم الانشغال بالظروف المحيطة.

الصلاة المنقذة: في لحظات الغرق والضعف، لا تحتاج لتنميق الكلمات، صرخة "نجني" تفتح أبواب السماء فوراً.

لمسة الإيمان: ليس المهم كم تعرف عن الله عقلياً، بل كم تقترب منه قلبياً لتلمس حضوره في حياتك.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url