تفسير إنجيل متى الأصحاح الخامس عشر الفصل 15

إنجيل متى الأصحاح 15 الفصل الخامس عشر
تفسير إنجيل متى الأصحاح الخامس عشر الفصل 15






في الأصحاح الخامس عشر، يأخذنا القديس متى في رحلة عميقة من الخارج إلى الداخل، ومن حدود إسرائيل الضيقة إلى رحابة محبة الله للأمم. يبدأ المشهد بصراع حاد بين يسوع والفريسيين حول تقاليد الغسيل الخارجي، ليكشف المسيح أن التلوث الحقيقي ينبع من القلب لا من الأيادي غير المغسولة. ثم ينتقل بنا ببراعة إلى قصة المرأة الكنعانية، التي أثبتت أن الإيمان الحي قد يوجد في أرض الغربة أكثر مما يوجد في أورشليم، ليختتم الأصحاح بمعجزة إشباع جديدة تؤكد أن مائدة المسيح تتسع للجميع، يهوداً وأمماً، بلا تمييز.




شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد





تفسير إنجيل متى الأصحاح 15: بين طهارة القلب وإيمان الغرباء


العدد الآية
1 فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفَدَ إِلَى يَسُوعَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ خِصِّيصًا لِمُوَاجَهَتِهِ.
2 فَسَأَلُوهُ بِلَهْجَةٍ اتِّهَامِيَّةٍ: «لِمَاذَا يَتَجَاوَزُ تَلاَمِيذُكَ التَّقَالِيدَ الْمُتَوَارَثَةَ عَنِ الشُّيُوخِ؟ فَهُمْ يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ دُونَ أَنْ يُطَهِّرُوا أَيْدِيَهُمْ بِالْغَسْلِ الطَّقْسِيِّ!».
3 فَرَدَّ عَلَيْهِمْ يَسُوعُ بِسُؤَالٍ كَاشِفٍ: «وَأَنْتُمْ أَيْضًا، لِمَاذَا تَكْسِرُونَ وَصِيَّةَ اللهِ الْمُبَاشِرَةَ مِنْ أَجْلِ الْحِفَاظِ عَلَى تَقَالِيدِكُمُ الْبَشَرِيَّةِ؟».
4 «فَاللهُ أَوْصَى بِوُضُوحٍ: ’أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ‘، وَأَيْضًا: ’مَنْ يَشْتِمُ أَبًا أَوْ أُمًّا فَعُقُوبَتُهُ الْمَوْتُ‘.
5 أَمَّا أَنْتُمْ فَتُعَلِّمُونَ النَّاسَ حِيلَةً مَاكِرَةً، قَائِلِينَ: إِذَا قَالَ أَحَدٌ لِوَالِدَيْهِ: ’إِنَّ الْمَالَ الَّذِي كَانَ يُمْكِنُ أَنْ أَنْفَعَكُمَا بِهِ هُوَ (قُرْبَانٌ)، أَيْ هَدِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ لِلْهَيْكَلِ‘،
6 فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَتَحَرَّرُ مِنْ وَاجِبِ إِكْرَامِ وَالِدَيْهِ وَرِعَايَتِهِمَا! وَبِهَذَا تَكُونُونَ قَدْ أَلْغَيْتُمْ فَعَالِيَّةَ كَلِمَةِ اللهِ وَاسْتَبْدَلْتُمُوهَا بِتَقَالِيدِكُمْ.
7 يَا لَكُمْ مِنْ مُنَافِقِينَ! لَقَدْ صَدَقَ النَّبِيُّ إِشَعْيَاءُ حِينَ تَنَبَّأَ عَنْ حَالِكُمْ قَائِلاً:
8 ’هَذَا الشَّعْبُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِكَلِمَاتِ فَمِهِ وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ فَقَطْ، أَمَّا قُلُوبُهُمْ فَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنِّي كُلَّ الْبُعْدِ.
9 فَعِبَادَتُهُمْ لِي بَاطِلَةٌ وَبِلاَ نَفْعٍ، لأَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ فِي الأَصْلِ مُجَرَّدُ وَصَايَا بَشَرِيَّةٍ‘».
10 ثُمَّ دَعَا يَسُوعُ الْجُمُوعَ لِيَقْتَرِبُوا مِنْهُ وَقَالَ لَهُمْ: «اسْمَعُوا جَيِّدًا وَافْهَمُوا هَذَا الدَّرْسَ:
11 لَيْسَ الطَّعَامُ الَّذِي يَدْخُلُ إِلَى الْفَمِ هُوَ مَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ أَمَامَ اللهِ، بَلِ الْكَلاَمُ الشِّرِّيرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هُوَ الَّذِي يُنَجِّسُهُ حَقًّا».
12 حِينَهَا اقْتَرَبَ مِنْهُ التَّلاَمِيذُ وَهَمَسُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ قَدِ اسْتَاءُوا جِدًّا وَتَعَثَّرُوا عِنْدَمَا سَمِعُوا كَلاَمَكَ هَذَا؟».
13 فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ بِحَزْمٍ: «كُلُّ غَرْسَةٍ لَمْ يَغْرِسْهَا أَبِي السَّمَاوِيُّ سَوْفَ تُرْفَعُ مِنْ جُذُورِهَا.
14 دَعُوهُمْ وَشَأْنَهُمْ، فَهُمْ قَادَةٌ عُمْيَانٌ يَقُودُونَ عُمْيَانًا مِثْلَهُمْ، وَإِذَا قَادَ الأَعْمَى أَعْمَى، فَإِنَّ كِلَيْهِمَا سَيَسْقُطَانِ حَتْمًا فِي حُفْرَةٍ».
15 فَطَلَبَ بُطْرُسُ مِنْهُ تَوْضِيحًا قَائِلاً: «يَا سَيِّدُ، فَسِّرْ لَنَا هَذَا الْمَثَلَ الْغَامِضَ».
16 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَحَتَّى أَنْتُمْ لاَ تَزَالُونَ دُونَ فَهْمٍ؟
17 أَلاَ تُدْرِكُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يَمُرُّ إِلَى الْجَوْفِ ثُمَّ يُطْرَحُ خَارِجَ الْجَسَدِ فِي الْخَلاَءِ؟
18 أَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ فَهُوَ يَنْبُعُ مِنَ الْقَلْبِ، وَهَذَا هُوَ مَا يَلَوِّثُ كِيَانَ الإِنْسَانِ.
19 لأَنَّهُ مِنَ الْقَلْبِ تَنْبُعُ الأَفْكَارُ السَّيِّئَةُ: الْقَتْلُ، الزِّنَى، الْفِسْقُ، السَّرِقَةُ، شَهَادَةُ الزُّورِ، وَالتَّجْدِيفُ.
20 هَذِهِ هِيَ الأُمُورُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ، أَمَّا الأَكْلُ دُونَ غَسْلِ الأَيْدِي فَلاَ يُنَجِّسُ رُوحَ الإِنْسَانِ».
21 بَعْدَ ذَلِكَ، غَادَرَ يَسُوعُ تِلْكَ الْمَنْطِقَةَ وَاتَّجَهَ نَحْوَ نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَا.
22 وَهُنَاكَ خَرَجَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْبِلاَدِ، تَصْرُخُ بِأَلَمٍ: «ارْحَمْنِي يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي تُعَانِي بِشِدَّةٍ مِنْ تَسَلُّطِ شَيْطَانٍ عَلَيْهَا».
23 لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْبِدَايَةِ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا عَنَّا، فَهِيَ تَسِيرُ خَلْفَنَا وَتُزْعِجُنَا بِصُرَاخِهَا».
24 فَأَجَابَ يَسُوعُ قَائِلاً: «أَنَا لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ لِجَمْعِ الْخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ».
25 لَكِنَّ الْمَرْأَةَ اقْتَرَبَتْ أَكْثَرَ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!».
26 فَأَجَابَهَا: «لاَ يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الأَبْنَاءِ وَيُلْقَى لِلْكِلاَبِ الصَّغِيرَةِ».
27 فَقَالَتْ لَهُ بِإِيمَانٍ وَتَوَاضُعٍ: «حَقًّا يَا سَيِّدُ، وَلَكِنْ حَتَّى الْكِلاَبُ الصَّغِيرَةُ تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَتَسَاقَطُ مِنْ مَائِدَةِ أَصْحَابِهَا».
28 حِينَهَا قَالَ لَهَا يَسُوعُ بِإِعْجَابٍ: «يَا امْرَأَةُ، مَا أَعْظَمَ إِيمَانَكِ! لِيَكُنْ لَكِ مَا طَلَبْتِ». وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ عَيْنِهَا شُفِيَتِ ابْنَتُهَا.
29 ثُمَّ انْتَقَلَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى قُرْبِ بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ.
30 فَتَوَافَدَتْ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، يَحْمِلُونَ مَعَهُمُ الْعُرْجَ وَالْعُمْيَ وَالْخُرْسَ وَالْمَشْلُولِينَ وَآخَرِينَ كَثِيرِينَ، وَوَضَعُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ، فَشَفَاهُمْ جَمِيعًا.
31 فَدُهِشَ الْجَمِيعُ عِنْدَمَا رَأَوْا الْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ، وَالْمَشْلُولِينَ يَصِحُّونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، فَمَجَّدُوا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ.
32 وَدَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ، فَقَدْ بَقُوا مَعِي ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَا يَأْكُلُونَهُ، وَلاَ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ وَهُمْ جِيَاعٌ لِئَلاَّ يُغْمَى عَلَيْهِمْ فِي الطَّرِيقِ».
33 فَقَالَ لَهُ التَّلاَمِيذُ: «مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ كَافٍ لِإِشْبَاعِ حَشْدٍ كَبِيرٍ كَهَذَا؟».
34 فَسَأَلَهُمْ يَسُوعُ: «كَمْ رَغِيفًا لَدَيْكُمْ؟» قَالُوا: «سَبْعَةٌ، وَقَلِيلٌ مِنَ السَّمَكِ الصَّغِيرِ».
35 فَأَمَرَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ أَنْ يَجْلِسُوا عَلَى الأَرْضِ.
36 وَأَخَذَ السَّبْعَةَ أَرْغِفَةٍ وَالسَّمَكَ، وَشَكَرَ ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ، وَالتَّلاَمِيذُ وَزَّعُوا عَلَى الْجُمُوعِ.
37 فَأَكَلَ الْجَمِيعُ حَتَّى امْتَلَأُوا، وَرَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ الْمُتَبَقِّيَةِ سَبْعَةَ سِلاَلٍ كَبِيرَةٍ مَمْلُوءَةً.
38 وَكَانَ عَدَدُ الآكِلِينَ أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُلٍ، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَطْفَالِ.
39 وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ، رَكِبَ السَّفِينَةَ وَذَهَبَ إِلَى نَوَاحِي مَجْدَلَ.


ثورة القلب على طقوس اليدين: التدين الزائف

يفتتح يسوع المشهد بمواجهة جريئة ضد نفاق القادة الدينيين. لم تكن المشكلة في غسل الأيدي كعادة صحية، بل في تحويلها إلى طقس ديني يُقاس عليه إيمان الشخص، بينما يتم تجاهل وصايا الله الجوهرية. يكشف يسوع بذكاء كيف ابتكروا نظام "القربان" ليتهربوا من مسؤولية رعاية الوالدين تحت غطاء ديني، مما يجعل وصية الله بلا مفعول.

الدرس الجوهري هنا هو أن الله ينظر إلى "نبع" التصرفات لا إلى "شكلها". النجاسة الحقيقية ليست ميكروباً يدخل الفم، بل هي الكراهية والشر التي تخرج من القلب. هذا التعليم يحررنا من سجن الشكليات ليدخلنا إلى رحابة نقاء القلب، مؤكداً أن العبادة الحقيقية تبدأ من الداخل وتنضح إلى الخارج.

فتات الإيمان الذي أشبع قلب الله: المرأة الكنعانية

في تباين مذهل مع قساوة قلوب الفريسيين (أبناء الملكوت)، نلتقي بامرأة كنعانية (وثنية) تملك قلباً ينبض بالإيمان. صمت يسوع في البداية وردوده القاسية ظاهرياً لم تكن لرفضها، بل لاستخراج جوهر إيمانها الثمين ليكون درساً للتلاميذ. هي لم تغضب من وصف "الكلاب"، بل قبلت مكانتها بتواضع عجيب، ورأت في "فتات" مائدة السيد غنىً يكفي لشفاء ابنتها.

هذه المرأة علمتنا أن الاستحقاق ليس بالنسب أو العرق، بل بالإيمان المصرّ. الفتات الساقط من مائدة النعمة الإلهية فيه قوة حياة أكثر من ولائم العالم الفاخرة. استجابة يسوع "يا امرأة عظيم إيمانك" هي وسام شرف لم يحصل عليه كثيرون من إسرائيل، لتعلن أن باب الرحمة مفتوح لكل من يطرق بلجاجة وتواضع.

مائدة في البرية: الشفقة التي لا تنضب

مرة أخرى، نرى يسوع في البرية، لكن هذه المرة مع جمهور مختلط من اليهود والأمم (العشابولس). تكرار معجزة إشباع الجموع برقم (4000) ورقم (7 سلال) يحمل رمزية الكمال والشمولية. يسوع لا يشفي الأمراض الجسدية فحسب، بل يهتم ببطونهم الخاوية أيضاً، قائلاً: "إني أشفق على الجمع".

هذا المشهد يؤكد أن الله هو "المعيل" الذي لا يمل من العطاء. التلاميذ نسوا المعجزة السابقة وسألوا "من أين لنا؟"، وهو سؤال نكرره نحن كثيراً في ضيقاتنا. لكن يسوع يعيد الدرس بصبر: قدموا القليل (سبعة أرغفة)، واشكروا، وسأتكفل أنا بالباقي. الشكر هو مفتاح التكثير، والبركة متاحة دائماً لمن يجلس عند قدمي المسيح.

خلاصة الأصحاح الخامس عشر

• جوهر العبادة: النقاء الحقيقي هو نقاء القلب والضمير، وليس مجرد ممارسات طقسية خارجية.
• خطر التقاليد: عندما تتعارض التقاليد البشرية مع وصايا المحبة والرحمة، يجب أن تكون الأولوية دائماً لكلمة الله.
• الإيمان العابر للحدود: الله لا يميز بالوجوه؛ إيمان المرأة الكنعانية يثبت أن القلب المنكسر والمتواضع هو الأقرب لقلب الله.
• الإصرار في الصلاة: لا تيأس من صمت الله المؤقت؛ فقد يكون هذا الصمت دعوة لتعميق طلبك وإظهار معدن إيمانك.
• الرعاية الكاملة: المسيح يهتم بكل تفاصيل حياتك، الروحية والجسدية، وهو قادر أن يشبع احتياجك في وسط البرية من لا شيء.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url