تفسير إنجيل متى الأصحاح السادس عشر الفصل 16

إنجيل متى الأصحاح  16
تفسير إنجيل متى الأصحاح السادس عشر الفصل 16





يُعتبر الأصحاح السادس عشر نقطة التحول المحورية في إنجيل متى، حيث ينتقل التركيز من خدمة يسوع الجماهيرية ومعجزاته إلى إعداد تلاميذه للصليب القادم. هنا، في قيصرية فيلبس، بعيداً عن صخب الجماهير وضغوط الفريسيين، يطرح يسوع السؤال الأخطر في التاريخ: 'من تقولون أني أنا؟'. هذا الأصحاح يحوي قمة الاعتراف بلاهوت المسيح على لسان بطرس، ولكنه يحوي أيضاً أعظم صدمة للتلاميذ حين يكشف يسوع أن الطريق إلى المجد يمر حتماً عبر الألم والموت. إنه أصحاح التناقضات بين فكر الله وفكر الناس، وبين بناء الكنيسة على الصخرة وحمل الصليب لاتباع المخلص.




شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد





تفسير إنجيل متى الأصحاح 16: الصخرة، الصليب، وكلفة التلمذة


العدد الآية
1 وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ، اجْتَمَعَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالصَّدُّوقِيُّونَ مَعًا، رَغْمَ خِلاَفَاتِهِمُ السَّابِقَةِ، وَجَاءُوا إِلَى يسوع لِيُجَرِّبُوهُ، مُطَالِبِينَ إِيَّاهُ بِإِظْهَارِ آيَةٍ خَارِقَةٍ مِنَ السَّمَاءِ تُثْبِتُ مَصْدَرَ سُلْطَانِهِ.
2 فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَأَجَابَ قَائِلاً: «عِنْدَمَا يَحِلُّ الْمَسَاءُ وَتَرَوْنَ السَّمَاءَ حَمْرَاءَ صَافِيَةً، تَقُولُونَ بِثِقَةٍ: ’غَدًا سَيَكُونُ الْطَقْسُ صَحْوًا‘.
3 وَفِي الصَّبَاحِ، إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ حَمْرَاءَ مُتَلَبِّدَةً بِالْغُيُومِ، تَقُولُونَ: ’الْيَوْمَ سَيَكُونُ عِاصِفًا‘. يَا لَكُمْ مِنْ مُنَافِقِينَ! تُجِيدُونَ قِرَاءَةَ عَلاَمَاتِ السَّمَاءِ وَتَتَنَبَّأُونَ بِالْطَقْسِ، وَلَكِنَّكُمْ عَاجِزُونَ تَمَامًا عَنْ فَهْمِ عَلاَمَاتِ الأَزْمِنَةِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَى مَلَكُوتِ اللهِ بَيْنَكُمْ».
4 «إِنَّ هَذَا الْجِيلَ الشِّرِّيرَ وَالْخَائِنَ لِعَهْدِ اللهِ يَسْعَى وَرَاءَ آيَةٍ مُعْجِزِيَّةٍ، وَلَنْ يُعْطَى لَهُ سِوَى آيَةِ يُونَانَ النَّبِيِّ». ثُمَّ أَدَارَ لَهُمْ ظَهْرَهُ وَمَضَى تَارِكًا إِيَّاهُمْ.
5 وَعِنْدَمَا عَبَرَ التَّلاَمِيذُ إِلَى الضَّفَّةِ الأُخْرَى مِنَ الْبُحَيْرَةِ، اكْتَشَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا مَعَهُمْ خُبْزًا.
6 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ مُحَذِّرًا: «كُونُوا يَقِظِينَ وَاحْذَرُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ».
7 فَبَدَأُوا يَتَهَامَسُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِسَذَاجَةٍ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ لأَنَّنَا لَمْ نُحْضِرْ مَعَنَا خُبْزًا».
8 فَعَلِمَ يَسُوعُ بِمَا يُفَكِّرُونَ بِهِ، وَقَالَ لَهُمْ مُعَاتِبًا: «يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ، لِمَاذَا تُنَاقِشُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ مَسْأَلَةَ عَدَمِ وُجُودِ خُبْزٍ؟
9 أَلَمْ تَفْهَمُوا بَعْدُ؟ أَلاَ تَذْكُرُونَ مُعْجِزَةَ الأَرْغِفَةِ الْخَمْسَةِ الَّتِي أَشْبَعَتْ خَمْسَةَ آلاَفِ رَجُلٍ، وَكَمْ قُفَّةً جَمَعْتُمْ بَعْدَهَا؟
10 وَلاَ مُعْجِزَةَ الأَرْغِفَةِ السَّبْعَةِ لِلأَرْبَعَةِ آلاَفِ شَخْصٍ، وَكَمْ سَلَّةً رَفَعْتُمْ مِنَ الْكِسَرِ الْمُتَبَقِّيَةِ؟
11 كَيْفَ لَمْ تُدْرِكُوا أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَتَحَدَّثُ عَنِ الْخُبْزِ الْمَادِّيِّ حِينَ قُلْتُ لَكُمُ احْذَرُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ؟».
12 حِينَهَا فَقَطْ فَهِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحَذِّرُهُمْ مِنْ خَمِيرِ الْخُبْزِ، بَلْ مِنْ تَعَالِيمِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ الْفَاسِدَةِ.
13 وَوُصُولاً إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ، سَأَلَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ سُؤَالاً جَوْهَرِيًّا: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ عَنِّي أَنَا ابْنَ الإِنْسَانِ؟».
14 فَأَجَابُوا: «الْبَعْضُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّكَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ إِيلِيَّا، وَغَيْرُهُمْ يَرَوْنَ فِيكَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدًا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْقُدَامَى».
15 فَوَجَّهَ السُّؤَالَ إِلَيْهِمْ مُبَاشَرَةً: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟».
16 فَانْبَرَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَأَجَابَ بِقُوَّةٍ: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ، ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!».
17 فَرَدَّ عَلَيْهِ يَسُوعُ قَائِلاً: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا! فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ لَمْ يَكْشِفْهَا لَكَ بَشَرٌ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، بَلْ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ الَّذِي أَعْلَنَهَا لَكَ.
18 وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ (الصَّخْرَةُ)، وَعَلَى صَخْرَةِ هَذَا الإِيمَانِ سَأَبْنِي كَنِيسَتِي، وَكُلُّ قُوَى الْمَوْتِ وَالْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا.
19 وَسَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَمَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ قَدْ رُبِطَ فِي السَّمَاءِ، وَمَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ».
20 ثُمَّ أَوْصَى تَلاَمِيذَهُ بِشِدَّةٍ أَلاَّ يُخْبِرُوا أَحَدًا بَعْدُ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ، لأَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَحِنْ.
21 وَمِنْ تِلْكَ اللَّحْظَةِ، بَدَأَ يَسُوعُ يَكْشِفُ لِتَلاَمِيذِهِ بِوُضُوحٍ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَنْ يُعَانِيَ آلاَمًا كَثِيرَةً عَلَى يَدِ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَأَنْ يُقْتَلَ، ثُمَّ يَقُومَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ.
22 فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ جَانِبًا وَبَدَأَ يُعَاتِبُهُ قَائِلاً: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ لَكَ هَذَا أَبَدًا!».
23 فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَقَالَ لِبُطْرُسَ بِحَزْمٍ شَدِيدٍ: «ابْتَعِدْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ عَثْرَةٌ فِي طَرِيقِي، لأَنَّكَ لاَ تُفَكِّرُ بِفِكْرِ اللهِ بَلْ بِفِكْرِ النَّاسِ».
24 ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ جَمِيعًا: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيُنْكِرْ ذَاتَهُ، وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي.
25 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ حَيَاتَهُ الأَرْضِيَّةَ سَيَفْقِدُهَا، أَمَّا مَنْ يَفْقِدُ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي فَسَيَجِدُ الْحَيَاةَ الْحَقِيقِيَّةَ.
26 فَمَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَلَكِنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُمْكِنُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يُقَدِّمَ فِدْيَةً لاِسْتِرْدَادِ نَفْسِهِ؟
27 لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ.
28 الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ بَعْضَ الْوَاقِفِينَ هُنَا لَنْ يَذُوقُوا الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ».


علامات الأزمنة وخمير النفاق

يبدأ الأصحاح بمواجهة غريبة حيث يتحد الأعداء (الفريسيون والصدوقيون) ضد يسوع، مما يكشف أن الكراهية للحق توحد حتى الأضداد. طلبهم لـ "آية من السماء" لم يكن بحثاً عن الإيمان، بل تعجيزاً، لأن يسوع كان قد صنع معجزات لا تُحصى أمامهم. يسوع يوبخهم لأنهم خبراء في الأرصاد الجوية لكنهم أميون روحياً، عاجزون عن قراءة حضور الله في وسطهم.

تحذير يسوع من "خمير" الفريسيين هو درس عميق في التمييز الروحي. الخمير يرمز للفساد الصغير الذي ينتشر بسرعة ليخمر العجين كله. تعليمهم القائم على الرياء والشكليات والمنطق البشري كان قادراً على إفساد إيمان التلاميذ البسيط. سوء فهم التلاميذ للخمير على أنه "خبز" يكشف مدى صعوبة انتقال الفكر البشري من المادي إلى الروحي، وحاجة الإنسان المستمرة للتذكير بمعجزات الله السابقة ليثق في تدبيره المستقبلي.

قيصرية فيلبس: الاعتراف الذي تأسست عليه الكنيسة

في منطقة وثنية تعج بالأوثان (قيصرية فيلبس)، يسأل يسوع عن هويته. آراء الناس كانت محترمة (نبي، إيليا) لكنها ناقصة. المسيحية لا تُبنى على احترام يسوع كمعلم عظيم، بل على الاعتراف به كـ "المسيح ابن الله الحي".

اعتراف بطرس لم يكن استنتاجاً عقلياً، بل "إعلاناً إلهياً". هنا يؤسس يسوع كنيسته ليس على شخص بطرس الضعيف الذي سقط لاحقاً، بل على "صخرة الإيمان" والاعتراف بلاهوته. وعده بأن "أبواب الجحيم لن تقوى عليها" هو الضمان الأبدي لانتصار الكنيسة، مهما اشتدت الهجمات، فالكنيسة في حالة هجوم دائم لانتزاع النفوس من قبضة الموت، وليس فقط للدفاع.

الصدمة الكبرى: الطريق يمر عبر الألم

مباشرة بعد قمة المجد (أنت المسيح)، يأتي إعلان الألم (يجب أن يُقتل). هذا الترتيب مقصود؛ فلا يمكن فهم الصليب بدون معرفة هوية المصلوب، ولا يمكن فهم المسيح بدون الصليب. بطرس، الذي نطق بالحق الإلهي قبل لحظات، ينطق الآن بفكر بشري شيطاني يحاول منع الفداء بدافع الحب العاطفي الخاطئ.

توبيخ يسوع القاسي "اذهب عني يا شيطان" ليس شتيمة لبطرس، بل كشف للمصدر الذي أوحى بهذه الفكرة. أي محاولة، حتى لو كانت نابعة من الشفقة، لتعطيل خطة الله في الصليب هي عمل شيطاني. هذا يعلمنا أن العواطف البشرية الجميلة قد تكون فخاً إذا تعارضت مع مشيئة الله.

قانون الملكوت: الربح بالخسارة

يضع يسوع دستور التلمذة الحقيقية: إنكار الذات وحمل الصليب. الصليب هنا ليس مجرد احتمال للمشقات، بل هو قرار طوعي بالموت عن الرغبات الشخصية والأنانية يومياً. المعادلة التي يطرحها يسوع تبدو متناقضة بمنطق العالم: من يتمسك بحياته يخسرها، ومن يبذلها يربحها.

قيمة النفس البشرية أغلى من العالم كله، لأن العالم فانٍ والنفس خالدة. يسوع يدعونا لاستثمار حياتنا في الباقي بدلاً من إضاعتها في الفاني. الوعد بالمجيء الثاني والمجازاة يعطي التلميذ الرجاء والقوة ليحمل صليبه اليوم، ناظراً إلى المجد العتيد أن يُستعلن.

خلاصة الأصحاح السادس عشر

• التمييز الروحي: لا تنشغل بعلامات السماء المادية وتتجاهل عمل الله في حياتك اليوم؛ اطلب بصيرة لترى يد الله.
• الاعتراف الشخصي: لا يكفي أن تعرف ما يقوله الآخرون عن يسوع؛ السؤال الأهم هو: من هو يسوع بالنسبة لك أنت؟
• أساس الكنيسة: الكنيسة قوية ومنتصرة لأنها مبنية على صخرة لاهوت المسيح، وليس على قدرات البشر.
• قبول الصليب: محبة الله لا تعني غياب الألم؛ أحياناً يكون طريق الألم هو الطريق الوحيد للمجد والقيامة.
• المعادلة الرابحة: التضحية بالحياة الحالية من أجل المسيح ليست خسارة، بل هي أذكى استثمار لضمان الحياة الأبدية.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url