تفسير إنجيل متى الأصحاح السابع عشر الفصل 17

تفسير إنجيل متى الأصحاح 17
تفسير إنجيل متى الأصحاح السابع عشر الفصل 17


يأخذنا الأصحاح السابع عشر في رحلة عمودية حادة؛ تبدأ من قمة جبل شاهق حيث نرى المسيح في أبهى صور مجده الإلهي، وتنحدر بنا سريعاً إلى قاع الوادي حيث نرى البشرية في أتعس صور عجزها وألمها. إنه أصحاح التناقضات الصارخة: بين النور الساطع والظلمة الروحية، بين صوت الآب المجيد وصراخ الأب المكلوم، بين قوة الله الكاملة وضعف التلاميذ الواضح. هنا نتعلم أن لحظات التجلي الروحي ليست للهروب من الواقع، بل للتزود بالقوة اللازمة لمواجهة معارك الحياة وخدمة المتألمين.




شاهد أيضا:

دليل شامل لفهم إنجيل متى في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل مرقس في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل لوقا في العهد الجديد دليل شامل لفهم إنجيل يوحنا في العهد الجديد





تفسير إنجيل متى الأصحاح 17: مجد التجلي ومعركة الوادي


العدد الآية
1 وَبَعْدَ مُرُورِ سِتَّةِ أَيَّامٍ عَلَى إِعْلاَنِهِ الأَوَّلِ عَنْ آلاَمِهِ، انْفَرَدَ يَسُوعُ بِبُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخِيهِ، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ شَاهِقٍ بَعِيدًا عَنِ الضَّجِيجِ.
2 وَهُنَاكَ، أَمَامَ أَنْظَارِهِمُ الْمُذْهِلَةِ، تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ تَمَامًا؛ فَأَشْرَقَ وَجْهُهُ كَشَمْسِ الظَّهِيرَةِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ نَاصِعَةَ الْبَيَاضِ كَالنُّورِ الْمُتَوَهِّجِ.
3 وَفَجْأَةً، ظَهَرَ لَهُمْ مُوسَى (مُمَثِّلُ الشَّرِيعَةِ) وَإِيلِيَّا (مُمَثِّلُ الأَنْبِيَاءِ)، وَكَانَا يَتَحَدَّثَانِ مَعَ يَسُوعَ.
4 فَتَدَخَّلَ بُطْرُسُ، مَأْخُوذًا بِرَوْعَةِ الْمَشْهَدِ، وَقَالَ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ، مَا أَجْمَلَ أَنْ نَبْقَى هُنَا! إِذَا شِئْتَ، سَأَصْنَعُ هُنَا ثَلاَثَ خِيَامٍ: وَاحِدَةً لَكَ، وَوَاحِدَةً لِمُوسَى، وَوَاحِدَةً لإِيلِيَّا».
5 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا بِسَحَابَةٍ مُنِيرَةٍ تُظَلِّلُهُمْ، وَانْطَلَقَ صَوْتٌ مَهِيبٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ كُلَّ السُّرُورِ. لَهُ اسْمَعُوا!».
6 فَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ الصَّوْتَ الإِلَهِيَّ، سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ.
7 فَاقْتَرَبَ يَسُوعُ مِنْهُمْ، وَلَمَسَهُمْ بِلُطْفٍ قَائِلاً: «قُومُوا، وَلاَ تَخَافُوا».
8 فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ بِحَذَرٍ، فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا سِوَى يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ.
9 وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ، أَمَرَهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: «لاَ تُخْبِرُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمُوهُ الآنَ، حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ».
10 فَسَأَلَهُ التَّلاَمِيذُ بِحَيْرَةٍ: «إِذَنْ، لِمَاذَا يُؤَكِّدُ الْكَتَبَةُ أَنَّ إِيلِيَّا يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً قَبْلَ الْمَسِيحِ؟».
11 فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «حَقًّا، إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً لِيُعِدَّ وَيُصْلِحَ كُلَّ شَيْءٍ.
12 وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ بِالْفِعْلِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ فَعَلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا مِنْ شَرٍّ. وَهَكَذَا أَيْضًا سَيَتَأَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى أَيْدِيهِمْ».
13 حِينَهَا فَهِمَ التَّلاَمِيذُ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي جَاءَ بِرُوحِ إِيلِيَّا.
14 وَعِنْدَمَا وَصَلُوا إِلَى حَيْثُ الْجَمْعُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ أَمَامَهُ
15 مُتَوَسِّلاً: «يَا سَيِّدُ، ارْحَمِ ابْنِي! فَإِنَّهُ مُصَابٌ بِالصرع وَيَتَأَلَّمُ بِشِدَّةٍ؛ كَثِيرًا مَا يَسْقُطُ فِي النَّارِ وَكَثِيرًا مَا يَغْرَقُ فِي الْمَاءِ.
16 وَقَدْ أَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ، فَعَجَزُوا تَمَامًا عَنْ شِفَائِهِ».
17 فَتَنَهَّدَ يَسُوعُ وَأَجَابَ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي! إِلَى مَتَى سَأَبْقَى مَعَكُمْ؟ وَإِلَى مَتَى سَأَحْتَمِلُ قِلَّةَ إِيمَانِكُمْ؟ قَدِّمُوا الصَّبِيَّ إِلَيَّ هُنَا».
18 فَانْتَهَرَ يَسُوعُ الشَّيْطَانَ، فَخَرَجَ مِنَ الصَّبِيِّ فِي الْحَالِ، وَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ.
19 بَعْدَ ذَلِكَ، جَاءَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَسَأَلُوهُ: «لِمَاذَا لَمْ نَسْتَطِعْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَ هَذَا الشَّيْطَانَ؟».
20 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ بِصَرَاحَةٍ: «بِسَبَبِ قِلَّةِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ حَيٌّ وَلَوْ بِحَجْمِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ صَغِيرَةٍ، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا الْجَبَلِ: ’انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ‘ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ.
21 وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ لاَ يُخْرَجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ».
22 وَفِيمَا كَانُوا يَتَجَوَّلُونَ فِي الْجَلِيلِ، قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ مُذَكِّرًا: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ،
23 فَيَقْتُلُونَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَيَقُومُ». فَامْتَلَأَ التَّلاَمِيذُ حُزْنًا شَدِيدًا لِسَمَاعِ ذَلِكَ.
24 وَعِنْدَمَا وَصَلُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ، جَاءَ جُبَاةُ ضَرِيبَةِ الْهَيْكَلِ (الدِّرْهَمَيْنِ) إِلَى بُطْرُسَ وَسَأَلُوهُ: «أَلاَ يُؤَدِّي مُعَلِّمُكُمُ الضَّرِيبَةَ؟».
25 فَأَجَابَ بُطْرُسُ بِتَسَرُّعٍ: «بَلَى، يُؤَدِّيهَا». وَعِنْدَمَا دَخَلَ الْبَيْتَ، سَبَقَهُ يَسُوعُ بِالْكَلاَمِ قَائِلاً: «مَا رَأْيُكَ يَا سِمْعَانُ؟ مُلُوكُ الأَرْضِ، مِمَّنْ يَأْخُذُونَ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ؟ أَمِنْ أَبْنَائِهِمْ أَمْ مِنَ الْغُرَبَاءِ؟».
26 قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «مِنَ الْغُرَبَاءِ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِذَنْ، فَالأَبْنَاءُ مُعْفَوْنَ وَأَحْرَارٌ (وَبِمَا أَنِّي ابْنُ اللهِ، فَأَنَا رَبُّ الْهَيْكَلِ).
27 وَلَكِنْ، حَتَّى لاَ نَكُونَ سَبَبَ عَثْرَةٍ لَهُمْ، اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ سِنَّارَةً، وَأَمْسِكْ أَوَّلَ سَمَكَةٍ تَطْلَعُ، وَافْتَحْ فَاهَا فَسَتَجِدُ قِطْعَةً مَالِيَّةً (إِسْتَارًا). خُذْهَا وَادْفَعْهَا لَهُمْ عَنِّي وَعَنْكَ».


التجلي: استعراض المجد قبل معركة الصليب

يأتي حدث التجلي بعد ستة أيام من إعلان الآلام، وكأن يسوع أراد أن يعطي تلاميذه جرعة مكثفة من المجد الإلهي لتكون لهم زاداً وسنداً في أيام الظلمة القادمة عند الصليب. تغير هيئته لم يكن إضاءة خارجية تسلطت عليه، بل كان مجد لاهوته الداخلي يسطع من خلال بشريته، معلناً أنه هو "نور العالم".

ظهور موسى وإيليا يحمل دلالة عميقة؛ فالشريعة (موسى) والأنبياء (إيليا) يشهدان للمسيح. وحوارهم معه (كما يذكر لوقا) كان عن "خروجه" في أورشليم. هذا يؤكد أن الصليب لم يكن حادثاً عارضاً، بل هو محور تدبير الله الذي تحدث عنه العهد القديم كله. اقتراح بطرس ببناء خيام يعكس رغبتنا البشرية في تجميد لحظات المجد والهروب من الواقع، لكن صوت الآب "له اسمعوا" أعاد التركيز إلى كلمة المسيح التي تقود للخدمة والألم، لا للانعزال.

العجز في الوادي: لماذا فشل التلاميذ؟

بينما كان المجد يغطي قمة الجبل، كانت المأساة تعصر قلب أب في أسفل الوادي. عجز التلاميذ عن شفاء الصبي لم يكن بسبب نقص في السلطان الممنوح لهم (فقد أخرجوا شياطين سابقاً)، بل بسبب "عدم الإيمان" والاعتماد على الذات. يبدو أنهم حاولوا استخدام اسم يسوع كتعويذة سحرية دون علاقة حية واتكال كامل على الله.

توبيخ يسوع "أيها الجيل غير المؤمن" يكشف ألمه من قساوة القلوب. لكنه يعطي المفتاح الذهبي: "الصلاة والصوم". الصوم يفرغنا من الاعتماد على الذات، والصلاة تملأنا بقوة الله. إيمان "حبة الخردل" ليس إيماناً كبيراً في الكمية، بل هو إيمان "حي" وناامي، قادر على نقل جبال المشاكل المستحيلة.

الابن والضريبة: الحرية والخضوع

تُختتم الأحداث بدرس رائع في الهوية والاتضاع. يسوع، بصفته ابن الله، هو رب الهيكل، وبالتالي هو معفى من دفع الضريبة التي تُجمع لصيانة بيت أبيه. الملوك لا يأخذون الضرائب من أبنائهم.

ومع ذلك، يختار يسوع أن يدفع "لئلا نعثرهم". هذا هو مبدأ التنازل عن الحقوق الشخصية من أجل مصلحة الآخرين وعدم إعاقة الإنجيل. وطريقته في الدفع (العملة في فم السمكة) تثبت مرة أخرى سلطانه المطلق على الطبيعة؛ فحتى سمك البحر يخدم خالقه ويقدم الجزية لملكه، في حين يجادل البشر في دفعها!

خلاصة الأصحاح السابع عشر

• مصدر القوة: لحظات الخلوة والتجلي مع الله هي المصدر الحقيقي للقوة لمواجهة أعباء الخدمة ومشاكل العالم.
• الاستماع للابن: الوصية العظمى من الآب هي "له اسمعوا"؛ سماع صوت المسيح يعلو على كل صوت آخر، سواء كان صوت الناموس أو الأنبياء.
• الإيمان النوعي: العبرة ليست في حجم إيمانك، بل في نوعيته واتصاله بالمصدر. إيمان صغير بالله القدير أفضل من ثقة كبيرة بالنفس.
• قوة الصلاة والصوم: بعض المعارك الروحية لا تُحسم بالجهد العادي، بل تحتاج إلى تكريس عميق وانسحاق أمام الله بالصلاة والصوم.
• فن التنازل: المسيحي الحقيقي يعرف حقوقه جيداً (كابن للملك)، لكنه مستعد للتنازل عنها طواعية بالمحبة لكي لا يكون سبب عثرة للآخرين.

مقالات ذات صلة

المنشور التالي المنشور السابق
لا تعليق
أضف تعليق
comment url